| مقـالات
وفي هذا الإطار الذي لانود الإيغال فيه تتبدى لنا سياقات متعددة للقصيدة من خلال ابعادها: الشكلية واللغوية والدلالية والتصويرية، وهي سياقات مهمة لمن اراد احكام قبضته على اي ظاهرة ناشزة او منسجمة، غير اننا لانريد تقصيها ومن اراد الوقوف على فيوض الحديث فليقرأ كتاب قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا للوزان بيرنار في ترجمتها الكاملة في مجلدين ضخمين ترجمة راوية صادق ومراجعة رفعت سلامة، دون التعويل على الترجمة المبتسرة بقلم د, زهير مجيد مغامس التي يراها البعض جماع القول لهذه الظاهرة الشكلية، وهي ترجمة ابتسارية لا تزيد صفحاتها عن الثلاثمائة فيما بلغت الترجمة الكاملة ألفاً ومائتين وخمسين صفحة، واستكمالاً لتاريخية الظاهرة وفنيتها عربياً يمكن الرجوع الى كتاب في البنية الإيقاعية للشعر الشعبي للدكتور كمال أبو ديب وكتاب نقض اصول الشعر الحر لإسماعيل جبرائيل العيسى وكتاب النثيرة والقصيدة المضادة لمحمد ياسر شرف, وكتاب قصيدة النثر الشعرية لأحمد بزون وكتاب قضايا الإبداع في قصيدة النثر وكتاب الحداثة في الشعر العربي المعاصر للدكتور محمد حمود, ولآخرين عرضوا لها في سياق دراساتهم للظواهر الحديثة، اضافة الى اعداد مجلة شعر ومجلة تحولات وما افاض به الكتاب والمبدعون فيهما حيث كان لهم قصب السبق المريب في هذه المضامير التي استزلت المتسطحين وعلى المتابع تفهم الفرق البين بين مايقال تنظيراً ومايكتب بدعوى الإبداع والربط بينهما فلذلك يسقط الادعاء، ومن تعقب تلك الاطروحات، وقف على حجم التغرير باسم التنظير، والقارئ الواعي تفجعه الفجوة بين المتداول: تنظيراً والمقول ابداعاً اذ ان التنظير الباذخ يخذله الشاهد الخداج، ولو ان النقاد كافة والمحتفين بالنثرية على وجه الخصوص انطلقوا من النص بوصفه تطبيقاً لتقلصت تلك الظاهرة، وسقطت من اعين المغرمين ولكن ضجة التمجيد جاءت في غياب دمامة الجسد وتشوهاته، والنصوص التي احيطت بهالات الثناء والتمجيد وقيل عنها مالم يقل عن عيون الشعر، لايجد فيها المتابعون بناءً لغوياً مثيراً ولا بناءً شكلياً مطرباً ولامعنى مبتكراً ولا براعة في الاداء او التصوير، والشعر له لغته الانزياحية المتعالية كما تحدث عنها غير واحد من النقاد، وله نبضه وكثرة مائة كما يقول الجاحظ وابتداء سنكتفي بإجهاض المصطلح من خلال تناقضه مع نفسه، فالقصيد غير النثر تماماً، مثلما ان المشي غير الرقص، ولأن الشعر إنشاد وتغن، فلابد له من ضابط ايقاعي ذي نظام دقيق، يتجاوز النثر الى النظم، وإذ يكون القصيد نظماً لما انتثر من الكلام، فإن النثر والنثار حل شكلي لما تم نظمه، وتركيبه المصطلح ساذجة بلهاء لتناقضها البدهي، ولا يسوغها الا صيحات العبث والتمرد، ولا عبرة بما يؤثر عن وصف النثر الجميل بالشعر في التراث العربي، وما نقل عن حسان بن ثابت رضي الله عنه من قول عندما سمع ابنه يقول كلاماً ليس موزوناً ولامقفى، وانما فيه ايقاع وإبداع حيث اقسم على شاعريته، أو ماقاله ابن سينا على ما اذكر عن القول الشعري فكل ذلك له تأويله وتبريره، وهو من مبالغات الثناء او من باب التوافق في التأثير والإطراب لا من باب التجانس الشكلي، فالنثر في الاعم الاغلب حديث العقل والفكر، والشعر في الاعم الاغلب حديث القلب والعاطفة، يميل النثر الى التأمل والنفعية، ويجنح الشعر الى الاطراب والإمتاع، وحين ينهض احدهما بجانب من مهمة الآخر يوصف به لا من باب التحقق، ولكن من باب التشابه، وعلى هذا يشبه الشجاع بالاسد والكريم بالمطر، ولايكون احدهما كما المشبه به، فالشجاع لايرضى ان يتحول الى اسد يمشي على اربع، والمشركون من قبل اولئك وصفوا الرسول بالشاعرية لتأثيره، وهو لم يقل شعراً، والله لم يعلمه الشعر وماينبغي له، والكلام البليغ المؤثر بتوقيعه يوصف بالشعرية بالنظر الى تأثيره، مثلما يوصف وجه الحسناء بالقمر وجسمها بالقضيب، ثم لا يكون وجهها قمراً ولا يكون جسمها قضيباً، والانطلاق من كلام الإعجاب الى التأسيس المصطلحي والاداء بقصد الشعرية ضرب في فجاج الوهم والادعاء، والقرآن الكريم تحدث عن الشعراء، وكان الى جانبهم سجع الكهان، وهو اقرب الى الشعر مما يتداوله النثريون المعاصرون، ولم يسم السجع شعراً، مع انه موقع مطرب مفيد، وفيه نفس ابداعي وصنعة بديعية.
والفن اي فن، سواء اكان: قولياً او حركياً او عملياً لابد له من ضابط وشرط، يفصلانه عما ليس بفن، ويكشفان الادعاء، ولهذا قيل الشعر صعب وطويل سلمه ، ولا اظن عاقلاً رشيداً يزن الأمور ويقدرها قدرها يجهل الفوارق بين الاشياء فشرط الشيء محقق لذاته، ولايمكن تحقق الأشياء الا بشرطها الفطري او الوضعي، والناس تلقوا الشعر منذ ابن حذام على هذه الشاكلة، ولو ان ذوائقهم هي التي فرضت التغيير لما كان في ذلك من بأس,
وإشكالية قصيدة النثر انها تأتي في سياق تنازلات موجعة وتخريب متعمد، والمفسدون في مدينة الفن كالعفن يسري على مهل حتى يأتي على كل شيء، وهاجس القضاء على الفوارق بين فنون القول هم مريب يساور المحتفين بالطوارئ حتى لقد عمد الحداثيون الى مصطلح الكتابة لإسقاط المسميات وإلغاء انواع الفنون القولية، ومن بعد هذا سمعنا بتفجير اللغة وتفجير الرواية، وما عدنا نفرق بين الكتابة والإبداع، حتى لقد هم بالشاعرية والإبداع الروائي من لايقدر على شيء من ذلك، واصبحنا نقرأ القول ثم نسأل: اشعر هذا ام نثر، ونقرأ النثر بوصفه ابداعاً روائياً او قصصياً فلا نجد فيه ما يفرق بين المقالة والقصة او بين القصة والرواية او بين السيرة الذاتية والرواية، وبسؤالنا المشروع والمحق يحكم علينا بالتسطح والسذاجة لاننا لانثمن التحولات ولانقدر المتغيرات، وأنهر الصحف تفيض بالقول ونقيضه وتلك موجة من التحولات للقضاء على شروط الفن، والعرب المحترمون للشرط الفني يبيحون للشاعر ضرورات نحوية وصرفية تحميه من المساس بالشرط الفني، وكأن تجاوز الشرط النحوي والصرفي اخف عندهم من تجاوز الشرط الفني، والعروضيون لم يبتكروا شيئا من عند انفسهم، انهم يصفون ظاهرة الشعر ثم يجعلون ذلك شرطا، والشعر فن والفن موهبة والموهبة لايعجزها الضابط والشرط والسمة، ومن توفر على الموهبة والثقافة والتجربة والموقف اتى بالإبداع على شاكلته التي هدي اليها عمالقة الشعر العربي.
ولأن الشعر فن قولي مغاير للكلام السردي، كان لابد ان يستكمل سمة الغيرية، والذين شايعوا تلك الدعوة غفلوا عن اشياء كثيرة، ماكان لها ان تغيب عن مثلهم، وهي ان الشعر ذو ارتباط وثيق بالامة التي انتجته، اذ هو سمة فطرية، واستجابة غريزية، ولكل امة فنها، ولا يجوز السطو على الغرائز والفطر السليمة لتكون كما هي عند الآخرين، والفنون القولية والفعلية استجابات عفوية تبقى مع غياب العلم والتحضر، ولا يزيدها العلم والتحضر إلا صقلاً وشيوعا.
والفطرة والغريزة ثبوتيتان، والتحول والتغيير لا يعتريان مثل ذلك, واشكالية الشعر ستظل قائمة، وبخاصة حين يمتد التغيير والتحول الى ثوابته, ومن ثوابته الإيقاع بمستوييه: الداخلي والخارجي واللغة الشعرية، وقد درج كثير من النقاد على الفصل بين الموسيقى الخارجية المتمثلة بالوزن والقافية، او بالشكل التفعيلي والقافية، كما ترسم له نازك الملائكة، والموسيقى الداخلية المتمثلة بأشياء كثيرة: كالتقفية الجميلة والتوازي الموفر لإيقاع الجملة، وقصر الجمل وتساويها وتشابه حروفها وحركاتها ومخارجها وهو المعروف بعلاقات الاصوات، بحيث يوصف ذلك بالجرس او بالإيقاع الرتيب، وقد تعارف عليه دعاة التجديد تخوفاً من استنزاف الطاقة الموسيقية للكلمة، على ان لكل صوت طاقة موسيقية، والكلمة حروف والحروف اصوات، فلها من خلال ذلك طاقاتها، وإذ لا نرى بأساً من التحرف الواعي للتجديد في الوزن والقافية والصورة، فإننا لانغفل اهمية التوازن في ذلك واستصحاب الفوارق بين انواع الفنون القولية.
إذ لا يمكن الرسم بلا الوان وريشة,,ولايمكن النحت بلا ادوات حادة وآليات قادرة على الحفر,, ولا يمكن الرقص بلا حركات موقعة,،ولايمكن العزف بدون آلات.
ولايمكن التغني بدون اصوات ذات مقادير، ودعوى تحطيم القوانين السابقة والتعويض عنها بقوانين جديدة لايمكن القبول بها، مالم يتحقق الانتقال من الفاضل الى الافضل، لقد رصد القراء تجويد التغني بالقرآن الكريم واخرجوا لنا علم التجويد وضبط العلماء اوزان الشعر والاعاريض والاضرب والقوافي وانواعها، واخرجوا لنا عروض الشعر وفعل مثل ذلك الموسيقيون فأخرجوا لنا نوتات الموسيقى وكل طائفة اتقنت علمها بقواعده وضوابطه واصوله، كالفقهاء والمحدثين والمفسرين والفلاسفة واللغويين وعلماء التربية والمؤرخين وسائر العلماء، ولكل علم اصوله وقواعده، فالنحو والصرف والبلاغة لا تعرف الا بقواعدها وشواهدها وامثلتها المتعارف عليها حتى قيل: الشاهد يثبت القاعدة والمثال يقربها، ومن ثم فليس من التجديد في شيء نسفُ قواعد الشعر وضوابطه.
وهل من المعقول نسف قواعد الفقه واصوله والإبقاء على الفقه؟ واشكالية التجديد ودعوى التنوير ان العابثين في ظل هذه الدعوى لايملكون القدرة على التحقيق من الثابت والمتحول، ولايفرقون بين الحرية المنضبطة والفوضوية الطائشة ولا يحررون متطلبات الهوية والانتماء قبل التحرف للتغيير، ولايعرفون ان هناك حضارة وضعية واخرى إلآهية، وان هناك رداً الى الله والرسول او رداً الى ما تواضعت عليه طائفة من البشر، الشرط الاهم ان تعلن عن مصدرية مشروعك وانتمائه، ثم تجالد وتجاهد على محظوره ومباحه، والمخيف ان التنويريين والحداثيين والعقلانيين يمارسون المسخ والذوبان في الآخر دون ثمن, والقول في الشعر العربي يرجع فيه الى ثوابته ومسلماته، ولايرجع به الى مسلمات الغرب والمترجم من شعرهم، والغربيون انفسهم يختلفون حول مفهوم الشعر عندهم، والراشدون منهم يستصحبون ما لا تقوم الظاهرة الا به، ولو نظرنا الى اختلاف علمين غربيين هما ورد زورث وكولودج حول طبيعة الشعر لادركنا حصافة الرأي وبعد النظر فزورث يرى ان لغة الشعر والنثر واحدة والفارق بينهما الوزن والقافية، فيما يرى كولردج ان الوزن والقافية ثانويان وان الفارق في اللغة ومن هنا نشأت ظاهرة الشعرية وهي إن صلحت للغرب قد لاتصلح بالضرورة للعرب, والذين يتهافتون على التغيير دون وعي بضوابطه، يعرضون المثمنات الحضارية للضياع، وهذا ماحصل للشعر العربي حين نسفت اهم سماته، ثم ان العدول الى النثرية ليس من التجديد، اذ هو تقليد خاطئ للغرب بوصف الترجمة للشعر الغربي شعراً، وهو ما لم يقل به احد، والتقليد غير التجديد، وهل احد ينكر قيم الشعر العربي الحضارية والفنية واللغوية عبر الف وخمسمائة عام او تزيد؟ اذ كان امرؤ القيس يقول ماقال ابن حذام، وعنترة لم ير الشعراء تركوا له متردماً، وهل احد يجهل اهمية الشعر بالنسبة للعربي؟ والشعر لا يتحقق إلا بشرطه الاهم، وهو الموسيقى، والموسيقى لاتتحقق مع النثر، والشعر قول ذو معنى وتركيب، لاتبرز خصوصيته إلا بالتركيب الموصوف المشروط، ومتى فقد سمته وشرطه اصبح قولاً نثرياً, والذين تولوا كبر الخطيئة، وسعوا لتهويد الفكر العربي بالركون الى المفكرين اليهود لايمكن احسان الظن بهم ولا القبول بأطروحاتهم، والبائسون الذين وقعوا في الشبهات يجب اطرهم على الحق بالمواجهة المعلنة وإيقافهم على اخطائهم واتاحة الفرصة لهم لتصحيحها وتفادي الوقوع في المستنقعات الآسنة التي فارت من تحت اقدم التنويريين الذين اتخذهم اعداء الحضارة الإسلامية طابوراً خامساً يفسدون ولا يصلحون، وقد يهوِّن البعض من أمر الشعر وقضايا الفن، ويرى فيه فسحة من الحرية، ونحن نرى ذلك، ولكننا نجدهم يفسدون في كل موقع، ويتعمدون نقض عرى الحضارة الإسلامية عروة عروة، وتبني قصيدة النثر واحدة من المكائد وإن كانت الاهون.
وعلى المستوى الفني الخالص نجد ان هناك فرقاً واضحاً بين نفي الموسيقى جملة، والدخول في معمارها للتعديل او التبديل، والشاعر الفذ من يلتزم ما لا يلزم فكيف بنا نتواطأ مع الذين لا يلتزمون بأقل ما يلزم، ودعاة قصيدة النثر نُفاة للموسيقى حملة، وهي من لوازم الشعر وثوابته واهم سماته وخصائصه، وهم في الوقت ذاته دعاة للتقليد الغبي، فالشعر المترجم لا يكون شعراً، وقصيدة النثر تقليد للمترجم، وليست للاصل، وهذا الفعل لا يكون احتذاءً، ولا يكون تجديداً، اما دعاة التجديد الواعون المتصرفون بذكاء وحذق داخل المعمار الموسيقي، فهم الذين يملكون مشروعية الفعل، لانهم لا ينفون الموسيقى وانما يتحرفون داخل معمارها، بما يرونه مستجيباً لذائقة العصر، وضابط الشعر الموسيقي يقوم على ثلاث ركائز:
التفعيلة.
والبحر.
والقافية.
والعدول الشاذ يتمثل بضرب الركائز الثلاث، اما العدول السليم فالدخول في نسق جديد يستصحب الركائز المعدلة، ودعاة النثرية ينسفونها جميعاً، ثم لا يلتون بما هو خير، وليس فيما يأتون به مبادرة، والشعر لا يتحقق بدون ركائزه، وليست الركائز موفرة للشعر ولا نقول بذلك، فقد تتوفر الركائز وتغيب الشعرية، ومع هذا فإن الشعرية لا تتحق بدون الركائز، وتلك إشكالية طنطن حولها الاكثرون.
لقد ألفت عشرات الكتب عن الشعر واللاشعر والشعر الحر والموسيقى الشعرية ، والشعرية ، وقيل عن الشعرنة وسيقت بدائل للعروض الخليلي واخرى لعمودية القصيدة وبنائها الشكلي واللغوي، وكل هذا الفيض محاولة جادة لحل الاشكالية القائمة، ولكن المتآمرين على تراث الامة لا يبحثون عن الحق، ولهذا لا نجد بأساً في محاولات نازك الملائكة ومحمد النويهي وابراهيم انيس ، وكل النقاد الذين دخلوا في معمار القصيدة العربية، وحاولوا التجديد مع مراعاة الفوارق والضوابط والشروط، ولما لم يكن التجديد مجرد المغايرة ولا مجرد التقليد للطارئ الغربي، كان لزاماً على دعاته ان يتبصروا في امرهم، وان يفرقوا بين عفوية المغايرة وتعمُّلها، والا يستأثروا بحلية التجديد المزورة، إذ مانراه من خروج على اوزان الخليل دون وقوف عند وحدة الوزن والقافية، او وحدة التفعيلة يعد تقليداً لمترجمات الشعر الغربي وليس تقليداً له، ومثل هذا الفعل لا يعد تجديداً ولا تقليداً مباشراً، انه تقليد التقليد على حد:
ولو كان عبدالله مولاً هجوته
ولكن عبدالله مولى مواليا |
اذ مانراه لا يكون شعراً على شاكلة الشعر العربي، ولا يكون شعراً على شاكلة الشعر الغربي، انه المسخ بكل بشاعته وترديه، ولما كان الشعر فناً قولياً اصبحت ترجمته مستحيلة، حتى لقد عدّها البعض خيانة، فالإبداع الفني في لغة ما حين يترجم يفقد فنيته، وهكذا كل كلام معجز في لغته لا يكون كذلك عندما يتحول بالترجمة الى لغة اخرى، حتى لقد قيل: ترجمة معاني القرآن، ولم يجز القول بترجمة القرآن، فالقرآن لا يكون قرآناً غير العربية، ولا يتحقق اعجازه البياني الا في لسانه العربي المبين، وهكذا الشعر لا يكون شعراً بغير لغته التي ابدع فيها:
عربياً كان الشعر او غير عربي, والإبداع الشعري ليس خاصية عربية كما يتصور البعض، ومن ثم لا يجوز الوقوع في مأزق المفاضلة، فلكل لغة فنها القولي الذي يسد حاجتها، والذين يقلدون الشكل الغربي المترجم يخطئون التصور، اذ الشعر الحقيقي قد انتهى بمجرد الترجمة، واذا كان الغربيون قد خرجوا على شكل شعرهم التقليدي وعدوا ذلك تجديدا، وقال الكثير منهم عن مشروع قصيدة النثر فإن طائفة منهم التزمت الشرط الشعري وأخرى لم تلتزم من مثل والتر وايتمان والعرب يملكون ذات الحق، ولكن في اطار خصوصية الشعر العربي، وهو ما لم يكن مع المصير الى قصيدة النثر وعجبي من ناشئة تقول ما قاله غيرها، وتحسب نفسها راسخة القدم في ساحة النقد، ويزيد ادعاؤهم حين تعول هذه الطوائف على مترجم لا يشكل أكثر من مرحلة تاريخية، وامام هذه الناشئة البائسة قد تفقد احتشامك لتسايرها في الخلق الدنيء، وقد تأخذك الحشمة فتدعهم يخوضون في احاديث هازئة ساخرة بثوابت الامة ومثمناتها والمؤلم ان الاكثر عنفاً وايغالاً في السخرية بالآخر هم الأقل معرفة، ولو قرؤوا ما كتبه عمر فروخ وبلبع وأحمد الأحمد وعز الدين إسماعيل والملائكة والنويهي وأنيس لوجدوا انهم الاعمق والاهدى والاجدى.
ثم ان فداحة المقترف تتضاعف: حين يرى المساندون لتلك الظاهرة انها بهذا الشكل تكون بديلاً امثل عن الشعر العربي، او حين يوغلون في النيل من القصيدة العربية وشعرائها ونقادها لتكريس قصيدة النثر ونفي الشعر العربي المثقل بقيود الوزن والقافية، كما يدعي العاجزون, ولو انهم اذ شايعوا تلك الظاهرة اقتنعوا بالتعايش السلمي مع القصيدة العربية، لكان خيراً لهم، والنيل من التراث وتعمد ضرب المسلمات نغمة مألوفة، منذ ان استهلها ميخائيل نعيمة وجبران وخلف من بعدهم رموز الحداثة والمتذيلون لهم، وهي افتراءات يتبادلها المتهالكون على ما طرأ من الغرب عن طريق الترجمة او عن طريق التلقي المباشر, والانقطاع والهدم، وتدنيس المقدس، وأنسنة الإلهي، من اولويات الهم الحداثي، وكل الذين يستمرئون النيل من التراث مصابون بدخن الحداثة الفكرية والنيل والاستخفاف يمتدان الى الوقافين عند حد المعقول المجددين حقيقة لا ادعاء والإنسان الذي لا يتبنى التقليعات الجديدة ولا يحفل بها إنسان في نظر البائسين جاهل متخلف,, واذا قصّر المحافظون والمؤصلون والمجددون حقيقة لعارض ذاتي وأكثرهم مقصرون بلا شك حُمِّل الادب العرب معرة التقصير، وسعى المرجفون الى التضخيم والنفخ في تلك المآخذ, وتقصير المحافظين او المجددين بالفعل لا بالتبعية لا يمنح غير الشعر سمة الشعر، وقصيدة النثر المتناقضة مع نفسها لا تكون في إطار الشعر، لفقدها اهم خصائصه، ولكنها تظل في إطار النثر الفني بوصفها نصاً ادبياً غير ابداعي، شأنها شأن المقالات والخواطر وغيرها، تحاسب على تقصيرها في مجال النثر الادبي، ومنشِؤها لا يسمى شاعراً، ما لم يكن له نصيب في مجال الشعر الحقيقي, والعجب يتضاعف حين تأتي قصيدة النثر من شعراء لهم قدم صدق في ساحة الشعر، وهؤلاء هم الذين جرؤوا الناشئة على التهافت المشين، وحملهم على ضياع المصطلح وفساد الذائقة, والمزري ان بعض السذج يقول نظماً باهتاً ثم يقول: هاؤموا اقرؤوا شعري العمودي، ثم يكتب بين يدي هذا النظم نثراً منطفئاً، وكأني به يريد من وراء ذلك تأكيد عدوله عن النظم اختياراً، مع اقتداره عليه، وتلك حيلة ساذجة، وتدثر بثوب الزور الذي يشف عما تحته من زيف، والأمر لا يقتصر على التحرف والتنويع مع الإبقاء على ادنى حد من السمة والشرط، ومن ثم كان لابد من مواجهة جادة لمثل هذه التحولات وقمع قاس للأدعياء وأطر صارم للمتفلتين على الشروط والضوابط، وذب جاد عن حوزة الشعر العربي بكل صرامته الشرطية، فالمبدعون الحقيقيون هم الذين قدموا الأنموذج، والعلماء وضعوا الشرط على ضوئه، وما من أحد الزم الشعراء بشرط لم يكن في الشعر السابق للمعيار والقاعدة والشرط.
إن هناك تقصيراً من شعراء العمودية، كما ان هناك ضعفاً في كثير من القصائد العمودية، ولكن هذا لايخول الاستبدال، ولا يشرع ضرب الظاهرة الشعرية، وممارسة كتلك تدل على مكائد غفلنا عن نواياها، والتنويريون يعولون في ضرب الإسلام على ضعف المسلمين وتخلفهم، والمقلدون النثريون يعولون في ضربهم للشعر العربي على ضعف الشعراء العموديين، والساحة مليئة بالرويبضات والإمعات، والمبتدئين الذين يكثرون سواد الهدامين
|
|
|
|
|