| مقـالات
تناولت في حلقة الأسبوع الماضي أوضاع مدينة الرياض في عهد حكم الأمير خالد بن سعود، وبيعة من بايعه من أهل الرياض خاصة وأهل نجد عامة، وتناولت الظروف التي من خلالها صعد خالد بن سعود الى سدة الحكم أولا من قبل محمد علي باشا، ومن ثم فترة انفراده بالحكم بعد أن سحب الباشا قواته من نجد, كما استعرضت علاقته بالسلطات العثمانية في الحجاز واعترافها بحكمه على نجد، وأوردت وثيقة البيعة له بالحكم وهي وثيقة تنشر لأول مرة.
أما في هذه الحلقة فسأتناول صفحة أخرى من تاريخ مدينة الرياض في ظل نظام حاكم جديد هو الأمير عبدالله بن ثنيان بن ابراهيم بن ثنيان بن سعود الذي تمكن من الاطاحة بنظام الأمير خالد بعد قيامه بانقلاب عليه تدعمه كل الفعاليات والقيادات السياسية والدينية في نجد التي أعلنت بيعتها للأمير ابن الثنيان الذين رأوا فيه تجسيدا لآمالهم وتطلعاتهم.
وبما أن عبدالله بن ثنيان قد حظي بدعم وتأييد كل الزعامات النجدية فإنه كان يدرك بأن خالد بن سعود كان قد اعترف بحكمه من قبل السلطات العثمانية وهذا ما يشكل خطورة على مستقبل نجد السياسي إذا لم يسارع الى اطلاعهم على أسباب ما أقدم عليه من اطاحة بنظام حكم الأمير خالد مدعما ذلك بالموقف النجدي ممثلا في زعامته السياسية والدينية من خلال توقيع وثيقة بيعة للأمير، وتوضيحا للأسباب التي جعلتهم يؤيدونه ويطيحون بسلفه، لأول مرة تحمل في ثناياها أسماء زعماء نجد وعلمائه، والزعامات القبلية، وكذلك تحمل تواقيع أبرز زعماء الأحساء بمن فيهم العلماء والقطيف ممثلا في توقيع أميرهم علي بن غانم.
كما نلاحظ كثافة العلماء المبايعين لابن ثنيان يتقدمهم ثلاثة من أبرز العلماء من آل الشيخ وكانوا مع غيرهم من العلماء قد امتنعوا عن بيعة الأمير خالد للأسباب التي أوضحتها في الحلقة رقم 2 من أوراق تاريخ مدينة الرياض.
كما تلاحظ توقيع الزعماء البارزين من زعماء القبائل النجدية والذين كانوا هم بدورهم قد غابوا عن التوقيع على وثيقة بيعة الأمير خالد بن سعود, كما نلاحظ غياب أسماء بعض الزعماء الذين بايعوا خالد بن سعود لأسباب مختلفة.
أما الملاحظة الأخيرة التي تشكل دلالة لها معناها، فهي غياب زعماء القصيم وجبل شمر والذين كما يبدو من قراءة وثائق هذه الفترة ان اقناعهم بعدم مبايعة الأمير ابن ثنيان كان بايعاز من سلطات الحجاز العثمانية الذين خططوا لفصل القصيم وجبل شمر من التبعية لحكومة ابن ثنيان كنوع من الضغوط عليه اذا ما امتنع عن اعلان بيعته للدولة العثمانية, ولكن الأمير ابن ثنيان الذي يعد بحق من دهاة الرجال، قيادة وسياسة وحنكة، والذي فرض سيطرته بقوة القائد المقتدر على كل نجد ومعظم أطراف الخليج رفض بشكل قاطع ان تفصل أهم منطقتين من مناطق نجد من جذرها، وألا تكون تابعة لحكومة الرياض، وأصر على أن نجد كل متكامل لا يتجزأ وأوضح ذلك بصراحة لمندوب حكومة الحجاز العثمانية الذي قام بزيارة له في الرياض، وكتب المندوب تقريرا مطولا أوضح فيه استياء الأمير ابن ثنيان عندما سمع بنية العثمانيين في استثناء القصيم وجبل شمر من إمارته, وقد أثنى المندوب الحجازي على مقدرة الأمير ابن ثنيان في السيطرة الكاملة على حكم نجد وأنه بكل المعايير مؤهل لذلك.
اقتنعت السلطات العثمانية في الحجاز ممثلة في عثمان باشا والي الحجاز بأن ابن ثنيان هو القادر على ضبط الأمور في نجد إذا ما قيس بسلفه الأمير خالد الذي اتهمه الوالي في تقريره الذي رفعه الى حكومته في استانبول بأنه غير قادر وغير مؤهل لحكم منطقة هي من أكثر مناطق الجزيرة العربية حساسية وخطورة على أمن الحجاز، بل المنطقة كلها إذا لم تحظ بأمير قادر من آل سعود يحظى بدعم وتأييد أهل نجد.
ولم يفت الوالي أن يشير في تقريره الى أن المؤهل الحقيقي لحكم نجد هو الأمير فيصل بن تركي الذي ما زال أسيرا في مصر، والذي دخل في مراسلات معه، وأنه اذا ما تمكن فيصل من العودة الى نجد فانه وحده القادر على حكم هذه المنطقة المضطربة, ولم يفت الوالي أن يشير في تقريره أيضا الى انه ينظر الى ان ابن ثنيان ثائر اغتصب الحكم بالقوة، ولكن الاعتراف بحكمه ضرورة لما يتمتع به من مواصفات الحاكم القادر على ادارة أمور نجد الى ان تتضح الصورة فيما يتعلق بعودة الأمير فيصل بن تركي الذي ما زالت المكاتبات تدور بينه وبين الوالي.
هذا الموقف أو المواقف من قبل الوالي عثمان باشا الذي علمته الحياة والتجربة كيف يتعامل مع الأوضاع في الجزيرة العربية، كان هناك موقف آخر يتعارض معه وهو موقف الشريف محمد بن عون شريف مكة، الذي كان لا يرى إلا اجتثاث حكم آل سعود من نجد، وفرض حكم عثماني مباشر عليها، وهذا موقف عاطفي بعيد عن الواقعية, والحديث حول موقف الوالي والشريف من هذه القضية يطول في ظل ما تكشف عنه الوثائق التي تظهر للنور لأول مرة وتحتاج الى مساحة أوسع وفي مكان غير هذا.
بعد ان اطمأن ابن ثنيان الى اعتراف السلطات العثمانية بحكمه، وعلى كافة نجد تبادل الهدايا مع الوالي، وكتب يطلب منه السماح لأهل نجد بأداء فريضة الحج التي كانوا لا يؤدونها إلا بصعوبة في ظل نظام حكم محمد علي باشا ومن سانده من الأشراف.
قام ابن ثنيان بتوسعة في قصر الحكم في مدينة الرياض، وخاصة مستودع السلاح، وضرب بيد من حديد على كل من اعتاد العبث بالأمن، وفرض الاستقرار الذي كانت نجد قد افتقدته، وكان قد سيّر حملة كان هو على رأسها لوضع حد لحرب كانت قد اندلعت بين أهل القصيم وأهل حائل, بعدما كتب اليه كل من الطرفين يطلبون منه وضع حد لحرب كل طرف يدعي أنه المعتدى عليه فيها، وهذا يدل على ان استقرار نجد لا يمكن أن يكون مالم يكن تحت سلطة حكومة مركزية قوية.
توسعت في هذه المقدمة لخلفيات الأحداث التي تزامنت مع فترة حكم الأمير عبدالله بن ثنيان, ومهما كان الأمر فإنها ما زالت قاصرة إذ ان هذا ليس مكانها؛ وكان الهدف في المكان الأول، الاشارة الى وثيقة بيعة أهل نجد لابن ثنيان، وخلع بيعتهم لسلفه الأمير خالد بن سعود وهي الوثيقة التي تحمل رقم 1798 لفة 3 وتاريخها 4 جمادى الأولى 1258ه, وهذه الوثيقة أصلية ومكان حفظها أرشيف رئاسة الوزراء استانبول.
وقد عرض علماء نجد ورؤساء القبائل بها الى والي جدة يطالبون بتنصيب عبدالله بن ثنيان السعود بدلا عن الأمير خالد بن سعود للأسباب التي ورد ذكرها في الوثيقة المشار إليها والتي لا يتسع المجال لنشر النص الحرفي لها.
* جامعة الملك سعود
|
|
|
|
|