| مقـالات
إننا على أعتاب بوابات جديدة وأنماط عصرية من التفكير والسلوكيات التي لم تكن لنعتاد عليها فيما مضى من تاريخنا وجغرافيتنا وخارطتنا الانستمولوجية,, نحن العرب والسعوديون بلا استثناء دخلنا الحقبة الإلكترونية من أوسع أبوابها وبلا أدنى تردد، فنحن أخذنا ننضوي تحت مظلة التكنولوجيا الرقمية بكل ما تحمله من تداعيات عميقة في التفكير والسلوك,, وأضيف أيضا أننا يمكن ان نوصف بأن إنساننا هو إنسان إلكتروني وليس مجرد إنسان يعيش في بيئة إلكترونية,,
وهناك فرق شاسع بينهما,, فالإنسان الإلكتروني يكون قد تقمص كل الذبذبات الإلكترونية وتكون هي قد شرخت شخصيته وقولبت مشاعره ونمَّطت من سلوكياته إلى أبعد مدى,, أما الإنسان في الحقبة الإلكترونية فليس بالضرورة ان يصل بشخصيته إلى المواصيل الرقمية والتشنجات الشخصية والتقولب الداخلي للفكر والأنماط السلوكية.
نحن اليوم وغداً وبعد غد,, نكون قد انسلخنا من شخصيتنا التي ألفناها وتحولنا إلى مجرد رقم إلكتروني بعنوان إلكتروني وبإدارة إلكترونية وبتفكير إلكتروني يولِّد معه بالتالي انماطاً سلوكية اقل ما يمكن وصفها بأنها أنماط إلكترونية صرفة، باردة بدون روح وجامدة بلا مشاعر,,
لقد كنا في مكان مميز من العلاقات الاجتماعية الحميمة وأصبحنا في وضعية مختلفة في النوعية والمعايشة، وكنا نملك وقتنا وزماننا وأصبحنا أسرى لوقت وزمان إلكتروني مفروض علينا بالدقيقة والثانية,, باللحظة والمكان,, بالكلمة والحرف,,
ولم نعد أنفسنا، ولم نعد مع غيرنا كما عهد الغير فينا,, أصبحنا مجرد أجهزة إلكترونية ترسل إشاراتها الرقمية أو الأنالوجية في شتى الاتجاهات ومختلف الأزمان,.
الإنسان السعودي كما ألفناه جداً وأباً، أماً وأختاً، قريباً وبعيداً كان يعيش في استقرار نفسي كبير، ألف صحراءه وجباله وسهوله، وحقوله، وبيوته، ومزارعه,,وعاش بين إخوة وعمومة وجيران يراهم كل يوم، وفي اليوم الواحد ربما يراهم مرات كثيرة,, يتسامرون ويتحدثون,, يتزاورون ويسلمون,, يعايدون ويتعايدون,, وهم أفراد يتناثرون في أماكن عديدة في مدننا الصغيرة وقرانا الكبيرة,, ولكنهم وقفة واحدة في كل وقت وفي كل مكان,, ومشاعر فياضة في كل مناسبة وفي كل احتفال,, هذا هو الإنسان السعودي الذي ألفناه في حياتنا الماضية,, أما اليوم فلم يعد من هذا الإنسان سوى أطلال الماضي وتواريخ المشاعر القديمة,, لقد قسا قلب هذا الإنسان، وطغى على المشاعر الحميمة التي كانت تلوج بداخله,, وأصبح عصرا جديدا وقلبا جديداً,, ومشاعر تجيش بمعان غريبة، وبكلمات أجنبية، وبقوالب سلوكية فرضتها مفاهيم الحقبة الحالية التي نعيش فيها، ومن خلالها، وبها وعبر تكييفاتها الكونية.
إنساننا الجديد نسي كل ما كان يفعله في الماضي، وبات أنموذجاً جديداً لإنسان إلكتروني غير مألوف في حياتنا البدوية,, ومخيماتنا الاجتماعية، وطبايعنا الشرقية,, يتأخر عن المناسبات الاجتماعية، فهو دائما يتوخى الأعذار,, فهو مشغول إلى درجة لا يصدقها أحد، وهو قد اعتمد على الوسائط الإلكترونية التي تحول دون الحديث أو اللقاء مع أهله وأقاربه وعشيرته,, فهو يؤدي التزاماته على استحياء,.
فقد فطن إلى إمكانية العزاء الجماعي عبر الصحف، أو العزاء الشخصي عبر الخطابات,, حتى إن أهل العزاء بدأوا يفطنون إلى وضع أرقام هواتفهم وجوالاتهم تحديدا لمساعدة الآخرين على أن يؤدوا واجب العزاء بأقل جهد وبيسر ودون تكبد المشاق من قبل المعزين,, وهذا الإنسان أيضا بدأ يعتمد على هواتفه الثابتة والمتحركة ليزف التهاني والتبريكات إلى كل من يعرفهم ومن لا يعرفهم أيضا بمجرد زر إلكتروني يضغطه ويحول تلك الرسالة من ثلاثة أسطر إلى عدد هائل من الناس,, لقد أدى واجب الوصل القرابي والزمالي والجواري دون أدنى جهد يذكر أو وقت يضيع,.
الحقبة الإلكترونية التي نقبع فيها علمتنا الكسل (ضد الحركة) والتبلد (ضد المشاعر) والجمود (ضد التغيير),, وعلمتنا أن نظل قابعين خلف شاشاتنا الفضية سواء كمبيوترات أو قنوات أو جوالات نتحسس ما يدور فيها، وما يكتب لنا عنها، وما يقال لنا عن الآخرين وعن العالم، دون أن نلج إلى هذا العالم، او نغوص في أعماقه,, لقد علمتنا الحضارة الإلكترونية الجديدة ان نظل متفرجين على ما يدور حولنا، نراقب دون أن نشارك، نتفرج بدون عمل، وننتقد بدون مببرات,, ونلهو بدون أسباب,,
لقد أصبحنا بحكم الظرف الإلكتروني ولطبيعة الحقبة الحالية معاقين بلا إعاقة وتوحديين بلا توحد (اوتزم)، ومنغلقين على أنفسنا، وذواتنا، وشخصياتناالجديدة دون ان نطل على من حولنا ونسأل ونسلم ونعايد ونزور,, إننا وعلى الأقل معظمنا بدأ يدخل إلى الملجأ الجديد الذي هيأته التكنولوجيا وصممه الإنترنت، وفرضته العولمة الجديدة,,
ولم يعد أمامنا كما يبدو سوى ان نعيش في هذا النفق الكبير الذي هو عبارة عن سراديب وغرف ومتاهات وكهوف من التجزيئات الكونية للإنسان,, وعبارة عن تقسيمات متفرعة من الشعيرات الدماغية التي خلفها العقل الجديد في العالم الذي بدأ يتكلم نيابة عنا، ويتفاعل معنا مهما كنا وأينما حللنا، وحيثما جثمت أجهزتنا وهواتفنا وإرسالاتنا الفضائية.
إنها شرخ في شخصيتنا التي ألفناها,, وعشنا معها,, ونظل دائما نتوق إليها,,
|
|
|
|
|