رئيس التحرير : خالد بن حمد المالك

أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 20th January,2001 العدد:10341الطبعةالاولـي السبت 25 ,شوال 1421

متابعة

العالم الرباني
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي إلى الصراط المستقيم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
لايخفى على كل ذي عقل واعٍ، وبصيرة نافذة، علو شأن العلم، وعظيم منزلته والعلماء الصادقون هم حملة ذلك النور، لهذا رفع الله شأنهم، وأعلى مكانتهم، وسما بقدرهم.
فهم قادة(1)، وأئمة يهتدى بهم، قولهم فصل، وحكمهم عدل، مواطنهم كمواضع القطر، يهتدي إليهم كل طالب، ويستقي من معينهم كل عاقل، إن غابوا أقحطت أرضهم، وان حلوا زانت منازلهم.
قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير)(2) ونحن في بلاد الحرمين خاصة، وعالمنا الإسلامي عامة قد أصبنا بمصائب وأي مصائب إنها فقد الأئمة الأعلام أهل السنة والكتاب, فما ان فجعنا بإمام أهل السنة والجماعة فضيلة الشيخ/ عبدالعزيز بن باز، رحمه الله, إلا ويقرع أسماعنا خبر وفاة عالم السنة النبوية وناصرها الشيخ/ محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله.
وهكذا تتوالى فجائع العالم الإسلامي بعلمائها كعقد انقطع نظمه, فرحمهم الله رحمة واسعة.
وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لايقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوسا جهالاً، فسئلوا، فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)(3).
وفي مساء الأربعاء الموافق 15/10/1421ه يفاجأ المسلمون عامةوأهل هذه البلاد خاصة بفاجعة كبرى، ورزية عظمى، خبرها أقلق القلوب، وأسال العيون، وذلك بفقد شيخنا وعالمنا ريحانة زمانه، وفقيه أمته وأقرانه، إنه علامة القصيم الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين, تغمده الله برحمته وقدس روحه, قال الدميري:(4)


إذا ما مات ذو علم وتقوى
فقد ثلمت من الإسلام ثلمة
وموت الصالح المرضي نقص
ففي مرآه الإسلام نسمة

فكم عرفنا عن شيخنا من خلال دروسه العامرة، ومحاضراته الشاملة، وتوجيهاته الصائبة، انه العالم الرباني الذي نذر نفسه لمناصرة العلم وخدمة أهله وبث العقيدة الصحيحة والدعوة إلى كل حق لا تعلوه شائبة، بل كان رحمه الله ذا ورع وزهد، وتواضع ورحابة صدر، يقول كلمة الحق ولا يبالي، كما كان رحمه الله ناصحا لعامة المسلمين وخاصتهم، فانتفع به الكثير تدريساً وفتياء وتأليفاً, واعتقد انه لايكاد يخلو بيت في هذه البلاد من كتب شيخنا او رسائله، أو حتى فتاواه وأقواله.
فسبحان من زرع في قلوب الناس حبه، فجعل له القبول والمحبة، وهذا مما لايدركه الإنسان بالمال والجاه، بل بالصلاح والفلاح.
(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(5) (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً)(6)


كم مات قوم ما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات

وكان رحمه الله صابراً ومصابراً، إذا عمل عملاً داوم عليه مهتديا بفعله صلى الله عليه وسلم (,, وكان إذا صلى صلاة داوم عليها)(7) وقول عائشة رضي الله عنها (كان عمله ديمة)(7).
فدروسه اليومية، والمحاضرات الموسمية، واللقاءات الشهرية واللقاء المفتوح في منزله ضحى كل خميس وغيرها، داوم عليها من غير نقص أو ملل، بل انه استمر على دروسه المكثفة في الإجازة الصيفية مع ظهور بوادر الداء لديه، وهذا ان دل فإنما يدل على صدق المقصد واخلاص العمل فرحمه الله وغفر له.
بل كان رحمه الله يمكث في موضع الدرس الساعة والساعتين بل والثلاث في عزيمة وهمة عالية، لايعتريه ملل ولا ضجر.
وله نمط معين يسلكه اثناء القاء الدرس، بل انفرد به عن غيره من العلماء الذين تلقيت عنهم, لأنه أكثر نفعا إذ يبدأ درسه بأسئلة عامة ثم حفظ المتن من قبل الطلاب وبعده الشرح ثم يخصص جزءاً للأسئلة عن الدرس.
بعد ذلك يطالب أولئك التلاميذ بمراجعة هذا الدرس لمناقشتهم به في الدرس القادم, وهكذا واعتقد ان بهذه الطريقة كانت استفادة الكثيرين من الطلاب, ولديه رحمه الله ملكة عجيبة لاستحضار الآيات من القرآن وقت إقامة الدليل علىالمسألة, فسبحان من منّ عليه بهذا الأسلوب الفريد والعرض المميز.
فبهذه الطريقة يستفيد كل من حضر دروسه، علماً ان دروسه يحضرها الطالب والمدرس والدكتور والمهندس والطبيب، وكثيراً ما تفد عليه مجموعات من الطلاب في الإجازة الصيفية حيث تكثيف الدروس، فمنهم من يأتي من داخل المملكة وبعضهم من خارجها, وهذه الدروس لاتخلو من الملح والطرائف والحكم طاردا كل ملل وسآمة عن كل مستمع لدرسه.
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أجمّوا هذه القلوب وابتغوا لها طرائف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان)(8), هكذا كان رحمه الله حافظا محافظا على الوقت مسخره لخدمة الإسلام ونشر العلم، كما كان عليه سلف الأمة، والشيخ في أقواله وأحكامه يبحث عن الحق ومتى ما اتضح له الدليل وقويت عنده الحجة التزم ذلك القول(9) وعمل به ولو كان مخالفاً لمذهبه، من ذلك عمله بوجوب زكاة الحلي، وجواز المسح على الخفين وان كانا مخرقين وكذلك الجوارب، وجواز قصر صلاة المسافر أكثر(10) من أربعة أيام ما دام قد نوى الرجوع لبلده، ويرى ان لمصلى العيد تحية كغيره من المساجد، وان خطبة العيد تبدأ بالحمد أولاً وغيرها من المسائل، وكثيرا ما كان يميل إلى أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله بل يرجحها أحياناً على غيرها وذلك لما عرف عنهما من تحقيق المسائل.
وبالجملة كان شيخنا رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطىء ويصيب ولكن خطأه مجزىء بالإحسان لبذله الجهد لادراك الصواب، ومما يناسب شيخنا ما قاله عمار بن الحسن في ابن المبارك:


إذا ذكر الأحبار في كل بلدة
فهم أنجم فيها وأنت هلالها(11)

فهنيئا لك يافقيد الأمة ذلك الإرث الذي خلفته لأمتك إنه إرث الأنبياء والعلماء فرحمه الله لم يترك مجالاً في الشريعة إلا كان له فيها اثر علمي منه المكتوب والمسموع عقيدة كان أم فقها أم حديثاً وتفسيراً وغير ذلك من الدروس والمحاضرات والتوجيهات إضافة إلى ما صنع من العقول المربية.
بل انك قد لا تصدق بالاعداد الهائلة التي تحضر دروسه كلها خاصة دروس الفقه والحديث.
فمثل هؤلاء لايمكن حصرهم, فكيف وقد مضت السنين والطلاب بين غاد ورائح, فانتشروا في بقاع الارض ينشرون ذلك النور الرباني فبارك الله في جهده ونفع به, وأخيراً نقول فيه ما قال ابن دريد الأزدي في الشافعي رحمهما الله:


لقد غيبت اثراؤه جسم ماجد
جليل إذ التفت عليه المجامع
لئن فجعتنا الحادثات بشخصه
لمن لما حكمن فيه فواجع
فأحكامه فينا بدور زواهر
وآثاره فينا نجوم طوالع(12)

وأنا بهذا المقال أكون قد ذكرت جزءا من جوانب شخصيته كما عايشته من خلال دروسه وما سمعته من مجلسه وان كان فضله أعظم وجهده أكبر فسير الرجال أعظم من ان تدون بصفحة أو صفحات.
وفي هذه العجالة سطرت ما قدر عليه البنان وخطه القلم وأملاه الجنان، في فاجعة أهل الإيمان، فنسأله سبحانه ان يتغمده بعفوه ورضوانه وان يسكنه فسيح جناته وان ينزله منازل الصديقين والشهداء، انه جواد كريم، ونسأله ان يحسن علينا الخلف انه نعم المولى ونعم النصير، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
محمد بن صالح بن سليمان الخزيم
مدير المعهد العلمي في البكيرية
* هوامش:
(1) الفوائد لابن القيم (ص261).
(2) سورة المجادلة آية (11).
(3) رواه البخاري كتاب العلم، ورواه مسلم في كتاب العلم
(4) طبقات الشافعية للسبكي (8/201).
(5) الحديد آية (21).
(6) سورة مريم آية (96).
(7) رواهما مسلم في كتاب الصيام.
(8) جامع بيان العلم (1/126).
(9) انظر الشرح الممتع (4/539).
(10) ستجد هذه المسائل في الشرح الممتع باماكن متفرقة وفي شرح بلوغ المرام ومذكرات الشيخ رحمه الله.
(11) سير وأعلام النبلاء (8/391).
(12) مناقب الشافعي (264).

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved