يفتتح ابو العلاء المعري داليته الشهيرة في رثائه للفقيه ابي حمزة بقوله:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
ثم يقول:
أبنات الهديل اسعدن أوعد
ن قليل العزاء بالاسعاد
والاسعاد يعني المعاونة والمشاركة في البكاء والنواح، ومن اهم ما يوصف به الحمام الاسعاد، وحسن الغناء والاطراب، والنوح والشجا، يقول ابو نواس الحيوان 3/205 207 :
اذا ثنته الغصون جللني
فينان مافي اديمه جُوَبُ
تبيت في مأتم حمائمه
كما تُرِنُّ الفواقد السلب
يهب شوقي وشوقهنَّ معاً
كأنما يستخفنا الطرب
الفينان: الطويل اراد به الغصون المشبهة بالشعر الجوب: جمع جوبة بالفتح وهي الفجوة, ترن: من الإرنان: وهو الصياح, الفواقد: جمع فاقد، وهي التي مات زوجها او ولدها السُّلُب: جمع سلوب، وهي بمعنى الفواقد ايضا.
وقال شاعر آخر:
لقد هتفت في جُنح ليل حمامةٌ
على فننٍ وهناً واني لنائم
فقلت اعتذاراً عند ذاك وانني
لنفسيَ مما قد سمعتُ للائم
كذبتُ وبيتِ الله لو كنت عاشقا
لما سبقتني بالبكاء الحمائم
ونلحظ ان الشاعر هنا يمزج بين مشاعر حبه وعشقه وبين بكاء الحمائم، ليصنع من هذا البكاء المشترك مجالا للتنفس ومنفذا للتخلص من بعض أعباء الحزن والألم.
ويقول نُصيب الأكبر مولى بني مروان:
ولو مثل مبكاها بكيت صبابة
بسُعدى، شفيتُ النفس قبل التندُّمِ
ولكن بكت قبلي فهيّج لي البكا
بكاها فقلت : الفضل للمتقدِّم
فهو يعترف بتقصيره في أداء واجبات البكاء على محبوبه لأنه لم يستمر في بكائه ولم يطوّل فيه وكان ايضا تاليا لبكاء الحمائم، ولم يكن هو السابق فيه, وقال اعرابي:
عليك سلام الله قاطعةَ القُوى
على ان قلبي للفراق كليم
قريح بتغريد الحمام اذا بكت
وان هبَّ يوماً للجنوب نسيم
القوى: جمع قوة، والمقصود انها قطعت حبل وده.
وقال مجنون ليلى:
ولو لم يهِجني الرائحون لهاجني
حماَئمُ وُرقِ في الديار وُقوع
تجاوبن فاستبكين من كان ذا هوى
نوائح لا تجري لهن دموع
وقال ابو الاسود الدؤلي نهاية الأرب للنويري 15/265 :
وساجع في فروع الأيك هيَّجني
لم أدر لِم ناح مما بي ولم سَجَعا
أباكيا اِلفَه من بعد فرقته
ام جازعا للنوى من قبل ان تقعا
يدعو حمامته والطير هاجعةٌ
فما هجعتُ له ليلا، وما هجعا
ولم يكتف ابو الأسود بتصوير البكاء والنوح، والتحامه ببكائه هو ونواحه بل لجأ ايضا الى الوصف، معتمدا على رهافة حسه الفني الذي اسعفه بمجموعة من التشبيهات اسهمت في رسم الصورة وتقريبها وتوشيتها بألوان من مظاهر الجمال اللونية الى جانب مظاهر الجمال الصوتي فقال:
موشَّحٌ سندساً خضرٌ مناكبه
ترى من المسك في أذياله لُمعا
له من الآس طوق فوق لبَّته
من البنفسج والخيريّ قد جمعا
كأنما عبّ في مسود غاليةٍ
وحل من تحته الكافور فانتُقعا
كأن عينيه من حسن اصفرارهما
فصَّان من حجر الياقوت قد قُطعا
كأن رجليه من حسن احمرارهما
ما رَقَّ من شَعبُ المرجان فاتسعا
ثم يمزج بين الصوت والحركة فيقول:
شكا النوى فبكى خوف الأسى فرقى
بين الجوانح من اوجاعه وجعا
والريح تخفضه طورا، وترفعه
طورا، فمنخفضا يدعو ومرتفعا
كأنه راهب في رأس صومعة
يتلو الزبور، ونجم الصبح قد طلعا
(الخيري: نوع من الزهر، منقول عن الفارسية, انتُقع مبنيا للمجهول : تغير لونه وبالميم اجود .
وقد تحول الحمام والحديث عنه عند الشعراء الى رمز لمجموعة من الصفات لها اقيامها لدى المحبين والمصابين، بل لدى كل الناس اهمها الإلف والأنس، والنزوع والشوق الى الأوطان وفي العصر الحديث غدا رمزا من رموز السلام والمحبة ومن مظاهر إلفة الاوطان قالوا: انه قد يسترق الحمام من منزل صاحبه وتقصُّ اجنحته وحين ينبت جناحه يحن الى إلفه، وينزع الى وطنه ولو مر على فراقه الحول واكثره وهو في حبه للاوطان يلتقي مع البشر قال تعالى: قالوا وما لنا الا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا البقرة 246 وقال : ولو أنا كتبنا عليهم ان اقتلوا انفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه الا قليل منهم النساء 66 فجعل خروجهم من ديارهم كفء قتلهم لأنفسهم وقال الشاعر: