| الاخيــرة
دأب العرب منذ عهد امرئ القيس، أو قد يكون قبله على تسطير الكثير من المواقع والأحداث من خلال أشعارهم التي حفظوها في صدورهم، وتناقلوها عبر الأجيال, فكانت زاداً أشبع الجياع في يوم ذي مسغبة، وشراباً أطفأ الظامئ من صدأ الصحاري، ولعل النغمة العليلة التي تشتف أذن السامع، وذلك النسيج البديع الذي يبهر الرائي ساعد على أن يكون الشعر سهل الحفظ ميسور الفهم, وتسابق القوم منذ ذلك العهد القديم على قول الشعر، وأمتطوه كأجود الجياد في الدفاع عن الحياض ورد الأعداء وشحذ الهمم، فتربع بجبروته على نظيره من الأدوات الإعلامية الأخرى كالنثر أو الخطابة أو الاتصال الشخصي، وظل كذلك ردحاً من الزمن لم يزاحمه قرقعة تلفاز، أو دندنة مذياع، أو صمت انترنت، وغنم الشعراء منه مغانم شخصية، كما غنمت قبائلهم به فضلاً على نظرائهم, والشعر العربي مليء بالحكم ومنه ما قال ابو إسحاق الغزي:
جحود فضيلة الشعراء رعي
وتفخيم المديح من الرشاد
محت بانت سعادُ ذنوبَ كعبٍ
وأعلن كعبه في كل واد
وتوسعت أغراضه فأصبحت لا تقتصر على الوصف، فكان المديح والهجاء، والفخر والغزل، والحكمة والرثاء, والحكمة ضالة المؤمن، والشعر العربي مليء بالحكم.
وقد أحسن الشاعر حيث قال:
كما ملأت معدتي بأطيب الطعام فعاتبني على عدم مبادرتي بمثل هذه المكارم فأجبته بقول الشافعي رحمه الله:
قالوا يزورك أحمد وتزوره
قلت الفضائل لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته
فلفضله فالفضل في الحالين له
وجلنا قد سمع بقول المتنبي:
وكم من عاتب قولا صحيحاً
وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه
على قدر القرائح والفهوم |
وقال الآخر:
عود لسانك قلة اللفظ
واحفظ لسانك أيما حفظ
إياك أن تعظ الرجال وقد
أصبحت محتاجاً إلى الوعظ |
وقال آخر:
إن العداوة تستحيل مودة
بتدارك الهفوات بالحسنات |
وقال آخر:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى
ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكان يظنها لا تفرج |
هذا النسيج البديع الذي أورثه لنا بعضاً من شعرائنا، ينم على مدى ما يتمتع به العربي من عقل راجح، ورؤية ثاقبة للأمور، ولكن من منا معشر العرب يقرأ هذه الحكم ويعمل بها عملاً صادقاً مخلصاً؟ لعله الكثير، لست أدري،،،
د, محمد بن عبدالرحمن البشر
|
|
|
|
|