| متابعة
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمرُ
فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عِذرُ
توفيت الآمال بعد محمد
وأصبح في شغل عن السفر السّفرُ
تردى ثياب الموت (بيضاً) (1) فما أتى
لها الليل إلا وهي من سندس خضرُ
مضى طاهر الأثواب لم تبق روضةٌ
غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ |
عذراً أبا تمام فقد استعرت منك هذه الأبيات التي قلتها في أحد المجاهدين في سبيل الله في زمنٍ غابر؛ لعجزي عن إيراد مثلها أو اقل منها لرثاء بدر قد أفل وتعذَّر طلوعه, وهو أحد المجاهدين في زماننا الحاضر، فهي وإن قيلت في من جَاهَد بفرسه وسِنَانِه، فهي تقالُ في مَن جاهد في سبيل الله بقلمه ولسانه, أقولها في مَن أفنى عمره تعلماً وتعليماً وإرشاداً وتدريساً ودعوة إلى الله تعالى، وكان من بقية سلف الأمة الصالح الذين كانت عبادة ربهم تستوعب حياتهم كلها, فليس للهو واللعب وتضييع الأوقات والتلذذ بشهوات الدنيا مكانٌ في حياتهم.
ذلك هو فقيد الأمة فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله الذي شرب من كأس المنون، ولقي ربه راضياً مطمئناً, وفجيعة المسلمين به ليست فجيعة من مصيبة دنيوية في مال أو ولد وإنما هي مصيبة في دينهم, إذ إن موت العالم التقي يعد ثلمة في الدين، لايسدُّها إلا ظهور عالم آخر يقوم بأمر الله بمثل ماكان يقوم به أنبياء الله، لأن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم, لا أريد أن أعدد مآثر الشيخ ومناقبه فقد عرفها القاصي والداني ولا يصح ان ترى الناس الشمس وتعرفهم بها؛ فهل في الوجود من لا يعرف الشمس؟! ولكن أود أن أشير إلى أمور:
< أولها: عزاء الأمة في وفاة هذا البحر ماورثه من علم غزير، وفقه بأحكام الدين ومعرفة بدلائل النصوص الشرعية، وطرق الاستنباط التي استقاها من مدرسة ابي العباس ابن تيمية رحمه الله واستقاها من شيوخه الأقربين كالسعدي وابن باز رحمهما الله تعالى, فحان الوقت لنقتسم ميراث الشيخ الذي ليس حكراً على أبنائه، بل هو ميراث للأمة جمعاء، ونعم الميراثُ العلمُ وطوبى لمن كان له نصيب الأسد منه.
< ثانياً : مَن منا لم يكن تلميذاً للشيخ رحمه الله ؟ من منا لم يستمع لأشرطته، أو لفتاواه عبر المذياع، أو لم يقرأ من كتبه، فكلنا تلامذته ولو لم نجلس في حلقته، وهذا والله هو الشرف والسؤدد, فمن حق شيخنا علينا ان ندعو له بظهر الغيب، في خلواتنا وعباداتنا؛ لأن من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه, ومن حقه علينا نشر علمه، ومنهجه في الفقه والدعوة إلى الله الذي تلقته الأمة بالقبول، وذلك لأنه نابع من إخلاص لله تعالى، وتحرٍّ للدليل ونبذٍ للتعصب والتقليد, وطرق النشر تكون في المدارس والمساجد والندوات والمحاضرات الجامعية والبحوث العلمية المنهجية, لكي ينتفع بها سائر الناس.
< ثالثاً: على الأمة أن تعرف قدر علمائها ماداموا أحياء وأن تخلص لهم بعد مماتهم، فالأمة بحمد الله بخير، فيها العلماء الأخيار، وطلبة العلم الأجلاء, فلنقم بحقهم الذي استوجبوه بما منحهم الله من العلم والهدى، ومن حقوقهم تقبل فتاواهم بصدر رحب، ونفوس مطمئنة، وعدم ضرب اقوالهم بعضها ببعض، ونبذ التعصب لهذا الشيخ أو ذاك لأن لكل عالم اجتهاده، ونحن نحسن الظن بهؤلاء الثلة الأخيار بقية السلف الصالح.
رحمك الله ياشيخنا رحمة واسعة، وحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فأنت شمس قد غربت وبقي ضوؤها في الآفاق يشع بين الناس نوراً وعلماً وهدى, وصلى الله على نبينا محمد.
علي بن سليمان الحامد
القصيم بريدة
(1) في القصيدة (حُمراً) وبدلتها (بيضاً) لأن الشيخ مات على السرير الأبيض.
|
|
|
|
|