مات ابن عثيمين ,, العُلا والمجد

مات ابن عثيمين ,, العُلا والمجد

مات ابن عثيمين العُلا.
فور اختراق النعي أذني لم تدر رئتاي ما الذي أصابهما، وكيف اعتراهما ذلك الانقباض العجيب وكأنه مقبض جرس ضرب ثم عادتا إلى ما كانتا عليه سابقاً؟
لم تدر شفتاي ما الذي فتقهما وقد كانتا رتقاً، وما ذلك النفس الذي أخرجتاه؟
لم تدر عيناي بحواجبهما ورموشهما وقرنيتهما ما الذي منعهما من إذراف الدمع صباً صباً حزناً على رحيل ابن عثيمين؟ جفتا اطمئناناً لأعماله العظيمة،وانه بإذن الله من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
لم تدر أصابعي ما تكتب، ومتى تكتب، وأين تكتب، وبأي قلم تكتب؟ فإن العقل والفكر والدماغ والقلب لم يوضحا لها ما فكرة الموضوع ولا أُفُقُه ولا بدايته من منتهاه، بل إنهم دفعوها إلى قبض القلم لنثر الكلمات نثرا تلك الكلمات التي هي الآن تكتب نفسها بنفسها ولا تدري عند أي سطر تقف.
لم تدر جوارحي كلها، وجسمي كله، ما الذي حصل لهم؟ ما الذي جرى لهم، ما الذي حدث لهم، ما الذي صار عندهم، ما الذي أصبح لديهم وأمسى وأضحى سرىً أو نهاراً؟
مات ابن عثيمين العُلا والمجد.
فور وصول نعيه لم يخرق فكري ونيتي إلا الصلاة عليه في حرم الله وأداء العمرة هنالك، وما أرحم ربي إذ يسّر ذلك، فإنه أستاذي وشيخي نعم شيخي الذي لم ير وجهي ولم يدرّسني .
نعم، ليس ذا وصفا أدبياً، ولا نثراً فنياً، ولا نظماً شعرياً، بل إنه وربي كل ما يبثه الآن قلبي فإني لم أعدّ للموضوع كلماته في خاطري ومخيلتي، وإنما هوما يلقيه قلبي مما اعرف من كلمات العربية.
أستاذي الذي عشت مع مؤلفاته عظيمة النفع، التي تأبى مس النقع، عشت مع ذلك الكلام الذهبي الفضي الزمردي اللؤلؤي الياقوتي المرجاني الألماسي من كلام العلماء، عشت معه سني الثانوية بالمعهد العلمي.
1 هاهي أصول التفسير تبرز ضمن مؤلفاته الدراسية، فما كان أيسرها وأنفسها وأنفعها، كلام ثاقب يثبت عينيك رغماً عنك وعنهما، كلام جامع مانع، حاولت عبثاً ان ألخصه وأخط تحت المهم خطاً، وماذا ألخص؟ لم أجد ما يلخص، فكل كلمة فيه وجدتني بحاجة إليها, وكذلك كل كنوزه, فجزاك الله خيراً بكل كلمة وحرف ونقطة وسطر وعلامة ترقيم مما حواه كتابك وكتب الله لك حسنة ياشيخ.
2 وهاهو ذا مصطلح الحديث، وما أدراك ما مصطلح الحديث؟ ولله كم كنت أجهل شيئاً اسمه مصطلح الحديث، فماذا الذي زرعته في عقلي وقلبي ياشيخ.
جزاك الله خيراً بكل كلمة وحرف ونقطة وسطر وعلامة ترقيم مما حواه، كتابك، وكتب الله لك حسنة ياشيخ.
3 وهاهو ذا تلخيص العقيدة الحموية لابن تيمية، فرأيت التفاني في علم العقيدة وصفائها وثباتها.
جزاك الله خيراً بكل كلمة وحرف ونقطة وسطر وعلامة ترقيم مما حواه كتابك، وكتب الله لك حسنة ياشيخ.
4 وهاهي ذي أصول الفقه، أما كفاك ياشيخ ما علمتنيه وما زودتني به في أمور ديني؟ قل لي بربك ما هذه الدرر التي تكتب؟ التي تخرج لتبرز وتنير عقولا، وتضيء قلوباً؟
جزاك الله خيراً بكل كلمة وحرف ونقطة وسطر وعلامة ترقيم مماحواه كتابك، وكتب الله لك حسنة ياشيخ.
إنني قبل هذه المرحلة لم أكن إنساناً، نعم لم يكن لي مكان بين الإنسانية، حتى جاءت مؤلفاتك ياشيخ فجعلت لي محلاً فيها، بك يا شيخ وبمؤلفاتك أصبحت إنساناً إنساناً، بعد أن كنت إنساناً حيواناً، فعلمتني ضمناً لا صراحة أن وعي عقلي يسمو بي عن رتبة الحيوان.
لك الفضل، وللمعهد العلمي بالرياض، ولمن درسني ماكتبت وغير ما كتبت من مواد دراسية، ولوالديّ قبلهم، ولله تعالى الفضل كله والأمر كله والخير كله والحمد كله من قبل ومن بعد.
مات ابن عثيمين العلا والمجد والشرف والرفعة.
مات ابن عثيمين النور والمصباح المنير والضوء اللامع والزئبق البارق.
مات ابن عثيمين الشامخ علمه شموخ جبال السروات وطويق، وزاغروس والهيملايا وكلمنغارو والأنديز والعَلويين والأمانوس والسراه والألب والإلب وأقوى وأشد بإعانة الله له منهم.
مات ابن عثيمين الخالد علمه في الدنيا، المقصود من المسلمين أجمعين لما فيه من الصفاء والنقاء والاجتهاد الحق والتأصيل من الكتاب والسنّة، وهل يُترك علم جمع تضاريس العالم وآثاره، وثبت ثباتهم وشمخ شموخهم؟!
مات ابن عثيمين وقد كان لسان حاله قبل وفاته يردد أبيات القائل:

مازلت أدرك ما غلا بل ما علا

وأكابد النهج العسير الأطولا

تجري بي الآمال في حلباته

جري السعيد إلى مدى ما أمّلا

أفضى بي التوفيق فيه إلى الذي

أعيا سواي توصلاً وتغلغلا

لو كان هذا العلم شخصا ناطقا

وسألته هل زار مثلي قال: لا

مات ابن عثيمين وكل نفس ذائقة الموت، وما نفس ابن عثيمين بمستثناة وقد ذاقته نفس أعظم خلق الله محمد (صلى الله عليه وسلم) وأكرم من سار على الأرض بقدم.
ذلكم مابثه صدري وقلبي وحبي في الله وقلمي، ذلكم ما بثه على عجل، بعد هذا المصاب الجلل، وهذا النجم الذي أفل، بثثته دون مراجعة أو تنقيح، بثثته وأنا على يقين أني أسقطت حرفاً أو قدمته أو أخرته، وأن كلمة أسقطتها سهواً فلم توجد بين كلماتي، وحُقّ لها ألا توجد، فلربما كانت تبكي في معزل عنهن حزناً على فراق الشيخ.
اللهم أعل ذكره في العالمين وعند ملائكتك في أعلى عليين، وقل لجبريل إنك تحب الشيخ محمد بن عثيمين ومره بحبه، ومر جبريل ان ينادي في الملائكة بأن الله يحب الشيخ محمد ابن عثيمين فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم اكتب له القبول في الارض يا رب العالمين, واغفر له وارحمه وجازه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
اللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، ونسألك قبول أعمالنا يارحمن يا رحيم، والمغفرة لنا ولوالدينا وجميع المسلمين.
وصلى الله على المعصوم الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أحمد رمضان مَقرم

الرياض

أعلـىالصفحة

رجوع