| الثقافية
جلست يوماً على رصيف ميناء الأماني انتظرها,, كل شيء حولي غارق في سكون رهيب إلا من اصوات طيور النورس وهي تمسح خد المحيط بظلها,, تأثرت ألحانها المتشابكة، طال انتظاري دون مجيئها، عدت مكتئباً اركل بين قدمي علبة الأوهام، حتى وصلت لكشك لبيع الكتب على جانب الطريق ملت إليه، وابتعت كتاباً عتيقاً عنوانه حكايات العاشقين حملته بين ذراعي وقطعت الطريق لحديقة صغيرة في الجانب المقابل، ذات بساط أخضر، جلست على أحد المقاعد الخشبية، يبدو اننا في فصل الخريف، فأوراق الأشجار تتساقط كما تتساقط همتي، فتحت الكتاب ألتهم حروفه، قرأت قصة رجل اسمه قيس بن الملوح أحب ابنة عمه ليلى لحد الجنون حتى لقب بمجنونها، فطلب منه عمه ان يزوجها اياه غير انه رفض فخرج يهيم على وجهه في الصحاري والقفار ويصاحب الوحوش والغزلان، ويأكل الحشائش والأشجار، ضحكت كثيراً حتى البكاء,, انه افتراء,, مزقت الكتاب قطعاً صغيرة وألقيتها على أرض الحديقة، أخرجت منديلاً لأمسح ما تساقط على وجنتي غير ان المنديل مبتل ومعطفي أيضاً يبدو أن السماء تبكي لبكائي، ألتفت حولي، لم أجد أحداً اختفي الجميع هرباً من الدموع، يبدو انهم لا يحبون الاحزان، المكان اظلم واضيئت المصابيح، استجمعت ما بقي في جسدي المهترئ من قوة ونهضت كما تقوم الخيل الهرمة لأسير في طريق طويل، اصطبغ بلون الأنوار الزرقاء، المباني الشامخة أمامي بنيت من أوراق شفافة ولكأنني أشاهد من بداخلها تعصف بهم,, ما زال المطر يتساقط وأوراق الشجر تسقط وأملي في العثور عليها يسقط، الأفكار تتزاحم في رأسي المرتعد، والتساؤلات المتلاحقة تعصف ذاكرتي المرتجفة، من أنا؟ وما الذي أريده؟ ما الحب؟,,,!
لا اعلم ما الوقت الذي مضى وانقضى، وأنا أهيم أبحث عن اجابة، كل ما أعلم انني أسير إلى المجهول، وبينما انا كذلك اذ بي أشاهد فتاة تقف على جانب الطريق ممسكة بأعلى السياج، ومن تحتها بحر لا قرار له، كانت ملامحها توحي بالبراءة، حالمة كحلم اسطوري، وشعرها المتدلي على اكتافها بعفوية يلاعب حبات المطر، وعيناها السوداوان تسافران، تنظران للافت البعيد, اقتربت منها بفضول ووجدت نفسي اسألها، إلى ما تنظرين سيدتي؟
أجابتني دونما التفاتة بصوت تنساب منه الرقة والحنان والدفء إلى الشمس أهي مجنونة؟ أي شمس، يمكن رؤيتها في المساء والسماء مليئة بالغيوم؟ عدت أشبع فضولي البليد لأسألها، وماذا تفعلين هنا في هذا الجو الماطر؟
قلت بأسى: لقد وعدني انه سوف يأتي هنا وانا أنتظره، عرفت الآن كيف تستطيع النظر للشمس في المساء.
التفت ستشرف الطريق لأواصل البحث عنهما، كل الدروب أمامي تائهة تحاول ان تجد في عيني دليل، اغمضت عيني وسرت أحمل قدمي على كتفي، وصلت لمدينة كتب على مدخلها مدينة الحب ابتسمت ابتسامة تملأ المساء وتقلق الصباح، من المؤكد انني سوف أجدها هنا فلأخل، دخلت، تفاجأت,, دهشت؟
كل الحيطان العائلية والاسوار الحديدية والأسلاك الشائكة سقطت أمامي، كما سقطت الأقنعة الزائفة التي تحمل الصدق والحب، وبدت لي الوجوه الحقيقية والقسمات الممتلئة حقداً وبغضاً وخيانة وشهوة، اسمع الأصوات الخافتة وأقرأ الأفكار التي لم تعد اسراراً، وأرى العيون الزجاجية التي تنظر بغير مبالاة، لقد استطعت ان اخفي نفسي في يدي.
هناك في الجانب الأيسر من مدخل المدينة شاهدت عاشقين قد تعانقا لتتحول الوردة التي كان يمسك بها لخنجر مسموم وبدا الرجل بمظهر شيطاني.
التفت إلى الجانب الآخر لأجد رجلين يجلسان على مقعد رخامي احدهما يبدو مكتئباً وقد اخذ يتوعد ويهدد تلك الخائنة، لقد خدعتني فلسوف تلقى جزاءها,, سوف أقتلها , ارعبني ما سمعت فأسرعت مبتعداً حتى استوقفني شجار رجل وامرأة اخذا في توجيه اللوم والسباب لبعضهما البعض حتى كادا يتشابكان بالأيدي, اكملت مسيري الى ان قابلني مطعم كبير، احسست بالجوع قد لفت لداخل المبنى المزدحم، اخذت مكاني في انتظار العامل فأثار دهشتي حديث مجموعة من الشباب وبخاصة تلك الجملة من احدهم لقد تركته بعد أن فقد ماله ومنصبه حاولت سد اذني ولكنني لم استطع لاسمع صوت امرأة تحدث جارتها: لقد رأيته معها مرة أخرى بعد أن نذرت له روحي وحياتي .
فأجابتها الأخرى: لا تندهشي يا عزيزتي هكذا هم الرجال خونة .
حينها تعالت من خلفي ضحكات شاب ذيلها بقوله الى الآن والأمور تسير حسب ما خططت له، سوف أسايرها حتى أظفر بها، وأحصل على ما أريد ثم أرميها ككلب ذليل ، لم أستطع الالتفات له، فقد تصلبت رقبتي ووقف شعر رأسي وشحب وجهي وتجمد دمي اهذا هو الحب؟ هؤلاء هم العاشقون كذب وخداع وغش واحتيال وخيانة! وصل العامل قائلاً: أهلاً وسهلاً يبدو انك غريب عن مدينة الحب، أرجو لك اقامة سعيدة والآن ماذا تريد سيدي؟
أريد,,,, أريد أن أخرج من هذه المدينة التعيسة نهضت مسرعاً بعصبية وسط دهشة العامل واخذت أجري هرباً من مرض الحب، ولما اطمئننت لبعدي عن تلك الحدود، توقفت وقد توقف المطر وانتشر الضباب والرياح المسافرة تعمل جاهدة في تحريك أوراق الشجر المتساقطة وعلب الحب الفارغة لتصدر صوتاً اشبه بسمفونية حزينة تدخل ردهات قلبي فتخدش جدرانه الزجاجية.
انكفأت في ركن مستند برأسي على ركبتي، مسافراً من الحقيقة للخيال، لأمحوها منه بعد أن رسمتها في أحلى صورة واخذت أجوب العالم بحثاً عنها دون جدوى، عندها سمعت صوت اقدام تنحو جهتي، رفعت رأسي فزعاً لاجدها تقف أمامي وتنظر إلي بنظرات يشع منها الحنان، وما هي إلا لحظة من الزمن حتى رمتني بصورة لها تحمل في الخلف عنوانها وسارت,, نظرت للصورة هممت أن الحقها غير انني تراجعت فسرت في الاتجاه المعاكس بعد أن مزقت صورتها.
عبدالله القرني
|
|
|
|
|