| مقـالات
يقول الشاعر العربي:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزود |
يحمل هذا البيت معنى جميلاً وعميقاً في دلالته على ان عامل الزمن ضروري وحتمي لكشف الكثير من الأمور التي نعيشها في حياتنا الدنيوية,, سواء أكانت محسوسة ام معنوية.
فالأيام كفيلة بكشف الحقائق، وإصلاح الكثير من الأمور والأفكار، والمواقف,, وكلما مر بالإنسان زمن معين اكتشف فيه جهله بأشياء كثيرة كان يظن معرفتها، بل إن نظرته لمعاني الحياة ومادياتها تتطور وفقاً لما يستجد، وتأتي به الايام من خبرات ومعارف ومواقف وتجارب,.
ولقد غلب الشاعر الأخبار في قوله ويأتيك بالأخبار من لم تزود على كثير من الأمور التي لا تأخذ صفة الخبر بقدر ما تعبر عن مكنونات الأشياء والمعارف التي كان الإنسان يستهين بها أو يجهلها أو يعتبرها أموراً طبيعية لا تستحوذ على الانتباه أو الإعجاب,, وكان تركيز الشاعر على الأخبار لان الحضارة العربية آنذاك تخلو من وسائل الاتصال المعاصرة والمواصلات السريعة، فكان الخبر يمثل أنموذجاً لما يحتاج إليه الإنسان العربي من معلومة,, وإلا فإن الشاعر ربما لا يقصد الأخبار في حد ذاتها.
وعندما نتمثل هذا البيت في واقعنا المعاصر نجد أن ما يقوله الشاعر ما كنت جاهلاً لم يعد هو الخبر فقط بل إنه أمر آخر بل أمور,, إنها في تقديري القناعات، الأفكار، الرؤى، العلاقات الإنسانية التي ما أن يمر الزمان عليها حتى تتغير، وتتطور، وتنكشف فيقول الإنسان لنفسه مثلاً كم كنت جاهلاً هذا الأمر أو كيف لم أعط هذا الأمر حقه من الانتباه أو لم أعره اهتماماً وربما يقول إذن هكذا كانت الأمور تسير!! واشياء كثيرة ربما لا يستطيع فك رموزها غير عامل الزمن,, ولدينا مقولة شعبية هي يقعده زمانه أو تعلمه الأيام وهكذا فإن عامل الزمن مهم جداً ويجب احترامه لأنه عامل معرفة كبيرة لا علاقة لها بالمدارس والجامعات، والكتب والصحف والإنترنت وغيرها,, ومن المأثور الشعبي قول أنا ما قريت لكن دريت .
عندما دخل أخي الأكبر إبراهيم مستشفى قوى الأمن عن عمر يناهز السبعين عاماً لعارض صحي ألم به، انتابني حزن عميق، وشعور غريب بالوحدة رغم كثرة الاخوة والأصدقاء والحمد لله,, لكن إبراهيم بعد فقدنا لأمنا وأبينا رحمهما الله يبقى الرمز، والقلب الكبير الحنون، والناصح الأمين لعموم أفرادنا,, وهو الذي يملك من العقل والحكمة والتجارب الكثير,, ووجدت نفسي أزوغ من ارتباطات العمل، والأسرة لأذهب إليه في أوقات مختلفة حيث لا زوار هناك أتأمله دون أن يدري لتعود بي ذاكرتي عندما كنت طفلاً وهو يؤدي دوره الكبير في نصح أبناء الأسرة وبناتها وتوجيههم باللطف والحكمة، ومساعدة الفقير منهم في بيت أو زواج أو غيرهما، ويدعوهم إلى الالتزام بالدين، واحترام الآخرين ووقوفه معهم في ظروفهم المختلفة, كان رجل عطاء ومحبة وإخلاص محبوباً من الجميع الذين اتفقوا على قيادته الحكيمة.
ومضيت أتذكر تشجيعه لي في المرحلة الابتدائية، حيث يعطيني نجاحه هدية عندما انتقل من صف إلى صف، ويشد من أزري في كثير من الأمور الحياتية، ولتشجيعي على مواصلة الجامعة اشترى لي سيارة آنذاك، وإذا أحسست بضيق كان أول من يسألني عن معاناتي، وإذا غبت كأي مراهق يسألني أين كنت، ويحقق معي كثيراً في ذلك، ودائما ما كنت أختلف معه فيما كنت أعتقد انه من حريتي الشخصية التي لا ينبغي أن يناقشني فيها احد أو يتدخل في صياغتها فأثور آنذاك وأغضب ليقابلني بحنان لا مثيل له لم أدركه إلا عندما تغربت خارج المملكة لسنين، كان الوحيد الذي يتصل بي ويسأل عن أحوالي ويساعدني، ويذكرني بالالتزام بتقوى الله والمحافظة على القيم والمبادئ الإسلامية بصوت مليء بالحكمة والرأفة وبأنه في انتظاري ليراني كما أراد وتأمل,, وعندما عدت كان أول الفرحين بعودتي والمحتفين بي.
مضيت أتذكر دور الشيخ وهو يجوب شارع الشميسي بالرياض على قدميه حاملاً بشته من مستشفى الرياض المركزي حتى شارع الظهيرة يؤدي دوره كرجل هيئة الأمر بالمعروف ثلاثين عاماً وهو يصيح في الناس الصلاة يا عباد الله الصلاة الصلاة ويأمر الدكاكين بالإغلاق وقت الصلاة باللين والرحمة وبالتي هي أحسن,, تذكرته عندما يأتي العيد ليجمعنا نحن الأطفال ويقوم بنفسه بذبح الأضاحي نتفرج عليه يمازحنا، ويضاحكنا ويشيع الفرح بيننا ودائما ما يناديني محيسن آه يا إبراهيم لقد كانت أيامك جميلة ورائعة, كبرنا، ونضجنا وعرفنا فيما بعد من هو إبراهيم,, الذي كنا نظن ان ما يفعله من مثاليات أمر طبيعي يفعله كل الإخوة,, لكن بعد تجربتنا مع الحياة ومواقفها ودروسها ورؤيتنا للناس ولبعض الإخوة الأشقاء المختلفين عن إبراهيم,, عرفنا قيمته الحقيقية ومعدنه الأصيل.
عندها تمثلت قول الشاعر:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزود |
شفاك الله يا أبا عبدالله وعافاك وسرنا بعودتك لنا يا أطيب الرجال,, اللهم عاف إبراهيم واشفه يا سميع الدعاء.
alreshoud@ hotmail.com
ص,ب 90155 رمز 11633 الرياض
|
|
|
|
|