أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Wednesday 17th January,2001 العدد:10338الطبعةالاولـي الاربعاء 22 ,شوال 1421

متابعة

وداعا يا أبا عبدالله إلى الفردوس الأعلى برحمة الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله ,, لقد جبلت هذه الحياة الدنيا على الكدر والمصائب كما قال سبحانه,, لقد خلقنا الانسان في كبد ,, انها مصائب فطر الله عز وجل عليها هذه الحياة حتى لا يطمئن بها هذا الانسان لانه تعالى يقول : ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها,,, ولعل اعظم رزايا الحياة مصيبة الموت والفراق بين الاحبة ولاسيما اذا كان هذا الفراق لأفضل شريحة في المجتمع وهم العلماء الذين انار الله تعالى بهم طريق الحياة الدنيا ورسم بهم الطريق الى الحياة الآخرة، خصوصا العلماء الربانيين، اهل الفضل والورع,.
إن الرزية تتضاعف والمصيبة تعظم ويتفاقم الخطر خصوصا في اشد ساعات الحياة وأحلك ظروفها وفي عالم يعج بالفتن والتقلبات في عصر التقنية والتحدي ولا سيما في هذه الأعوام الاخيرة التي رزىء بها العالم الاسلامي بمصائب وتغيرات زامنها فقد كوكبة من العلماء الذين أيقظ الله بهم هذا الضمير البشري الغافل وساهموا مساهمة فعالة في هذه الصحوة المباركة فكان لهم قصب السبق، فقد اظهر الله بهم الحق وكشف بهم زيف الحضارة في زمن قياسي عجيب واليوم يعيش الفجيعة الكبرى بفقد رجل لا كالرجال سواء كان في علمه او جهاده المتواصل لمدة تزيد على نصف قرن من الزمان قضاها على افضل ما يجب ان يكون العلماء والمصلحون ثم ترك لنا بعد ذلك خير ما يتركه العلماء من آثار, نسأل الله ان يتقبلها منه وألا يحرمنا اجره ولا يفتنا بعده,, لقد فقدته الامة في وقت هي احوج ما تكون فيه إليه والى امثاله ولنا امل في الله سبحانه ان يخلف على الأمة خيرا منه وان يجبر المصاب ويحقق الآمال في بقية العلماء,, انه الأب الحنون والشيخ المتواضع والعالم الرباني الورع الشيخ أبو عبدالله محمد بن صالح العثيمين الذي لا يسعنا الا ان نقول له: وداعا يا أبا عبدالله طبت حيا وميتا وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا نقول الا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك لمحزونون,.


ولو نعطى الخيار لما افترقنا
ولكن لا خيار مع الليالي

ولعلّ كاتب هذه الكلمات بدموعه من الذين عايشوا الشيخ ردحا من الزمن يندر ان يحظى به احد من الناس، فقد تشرفت بصحبته 47 عاما كنت احد طلابه منذ عام 1374ه ثم صرت زميله في المعهد العلمي مدرسا في عنيزة زمنا ثم زاملته في التدريس في جامعة الامام بالقصيم زمنا فكانت حياة ألذّ ما تكون أعتز بها كثيرا، بل كنت في اول حياتي العملية بصحبته حتى داخل بيته وفي الرحلات والتنزه قبل ان يهبه الله سبحانه هؤلاء الانجال الكرام، بل كنت موضع ثقته وقائد السيارة برفقته الميمونة احتسبها عند الله، لذا فإني اعتبر نفسي اول من رزىء به بعد اهله وابنائه الكرام واني احتسب هذه المصيبة العظمى عند الله سبحانه وتعالى مع احر التعازي لإخوانه واهله وأبنائه جعلهم الله خير خلف لخير سلف ولحكومة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله وللشعب السعودي كافة وللأمة الاسلامية جمعاء.
* حياة الشيخ العلمية والعملية تغمده الله برحمته,.
ولد في مدينة عنيزة في آخر شهر رمضان المبارك وفي ليلة سبع وعشرين ولعلها وافقت الليلة المباركة في عام 1347ه ولعل هذا التاريخ المبارك الذي بدأت فيه حياة الشيخ غفر الله له تزامن مع اصول عريقة لفضيلته، فقد كان بين اجداده لأمه آل دامغ بيت فضل وعلم وصلاح وقد كان لهم قصب السبق في تعليم كتاب الله تعالى على مستوى عنيزة كلها في فترة من الزمن يضاف الى ذلك الفترة التي عاشها فضيلته في أيام شبابه حيث عنيزة حينئذ مركز العلوم على مستوى نجد كلها حيث احتضنت اول مدرسة حكومية المدرسة العزيزية وحيث العلماء البارزون مثل فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي غفر الله له وغيره ممن تمتاز بهم مدينة عنيزة اضافة الى انتشار الكتاتيب في عنيزة مما كان سببا في بروزه غفر الله له ولما يمتاز به فضيلته من ذكاء ومثابرة وطول نفس كل ذلك بعد توفيق الله سبحانه، فقد حفظ القرآن منذ نعومة اظفاره واتجه الى العلوم الشرعية وتحصيلها مبكرا، لذا فقد برز فضيلته وكانت له الباع الطولى في العلم ولا سيما في جانب الاجتهاد وفقه الكتاب والسنة والاخذ بما يسانده الدليل جريا على منهج شيوخه الثلاثة رحمهم الله شيخ الاسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ عبدالرحمن السعدي رحمهم الله جميعا رحمة واسعة.
لذا فاني اعتبره حسب علمي لا يجارى في فقه الاجتهاد في هذا العصر كله مع احترامنا لبقية العلماء واعتبر وفاته نكبة ونلمة اصابت العلم والعلماء ولنا العزاء في بقية العلماء,, وقد التحق غفر الله له في المعهد العلمي بالرياض عام 1372ه ثم اكمل كلية الشريعة عام 1377ه.
اما حياته العملية فقد عين مدرسا في المعهد العلمي عام 1374ه وكان لنا شرف التتلمذ عليه في الصف الثاني المتوسط فكان لنا نعم المربي رحمه الله وفي عام 1376ه وبعدما انتقل الى جوار ربه الشيخ السعدي خلفه الشيخ محمد رحمه الله الى ان لقي ربه سبحانه لمدة 45 سنة إماما وخطيبا ومدرسا ومفتيا وكان خير خلف لخير سلف ثم انتقل فضيلته الى التدريس في جامعة الامام فرع القصيم وتم ترشيحه عضوا في هيئة كبار العلماء وقضى جزءا كبيرا من عمره حافلا بالعمل الجبار كما قضى فضيلته طيلة حياته في البحث والتعليم والفتيا والدعوة الى الله تعالى وكان مثلا يحتذى به في البحث والتربية والتدريس يقضي الساعات الطوال بين جنبات الكتب وكان رحمه الله يحافظ على الوقت ويحصر اتصاله بالجمهور اوقات الصلوات وبعض الجلسات الخفيفة بعد العشاء يزور بعض الناس ويقضي ساعة او قريبا منها وكانت الجلسة كلها علمية أسئلة وأجوبة فقط ولم يكن هناك اي حديث آخر من امور الدنيا وكان يقضي الوقت كله في العلم وبحوثه.
اما التعليم فقد حظي بعدد كبير جدا من الطلبة لم يتوفر لأحد غيره رجالا ونساءً سواء في ذلك من الداخل او خارج المملكة فكانت هناك عدة عمارات في عنيزة مخصصة لسكن طلابه من اصحاب الأسر والعزاب وقد هاجر الى عنيزة مئات الطلاب من الدول العربية والاسلامية المجاورة من اجل طلب العلم عليه وكان رحمه الله ينفق على الفقراء منهم وكانوا ينتقلون معه الى مكة اذا انتقل الى هناك ويلتفون حوله في المسجد الحرام وكان رحمه الله يقضي الساعات الطوال في المسجد مع طلبته على افضل طريقة تربوية في متابعة التحصيل والاسئلة والاجوبة والبحوث التي يكلف بها الطلبة وكانت منتظمة مفيدة متنوعة الدروس وقد اثرت المكتبة الاسلامية في عهده ثراءً منقطع النظير وكانت له مؤلفات قيمة في مختلف المصنفات في الفقه والاصول والحديث والتفسير وله رسائل صغيرة في فتاوى خاصة معينة كما ان هناك اشرطة كثيرة جدا تحتوي على دروسه ومحاضراته وأجوبته والكثير منها فرغ في كتب ولقد انتشرت تلك الاشرطة داخل المملكة وخارجها واستفاد منها الناس كافة حتى اني التقيت ببعض الشباب في مدينة في الولايات المتحدة فرأيت عندهم اكثر من 350 شريط كاسيت للشيخ ووجدت اشرطة لديهم لم اسمع بها في بلد الشيخ نفسه وكان الكثير من الشباب هناك في غاية الشوق اليه وخصوصا غير السعوديين الذين لم يتعرفوا على شخصه الا من خلال الاشرطة لذا اعتبروا فرصة اللقاء به ثمينة جدا حينما ذهب للعلاج هناك فالتفوا حوله من سائر الولايات المتحدة الامريكية وكندا وكانوا يلحّون على الشيخ بالبقاء معهم مدة اطول,, أما الفتيا فكان المقصد الاول في انحاء المملكة وقد خصص احد هواتفه للفتيا اضافة الى ان بلده عنيزة صارت مقصدا لطلاب الفتوى والذين لا يثقون بأحد سواه وخصوصا في امور خاصة وهامة كالطلاق ولاسيما طلاق الثلاث او الطلقة الثالثة التي يوسع فيها فضيلته على الناس مع اخذ الحيطة والحذر ولاسيما انه يرى ان الطلقات الثلاث لا تبت المرأة عنده الا اذا كانت الثلاث متفرقة وبين كل طلقتين رجعة وهذا في الحقيقة توسيع على كثير من الناس كذلك لا يرى الطلاق البدعي ولا يقع كالطلاق اثناء الحيض او في طهر جامع فيه فهو لا يرى وقوعه خلافا لكثير من العلماء فكان الناس يقصدونه من كل صوب يعرضون عليه مشاكلهم وكان يستقبلها بصدر رحب ولم يكن رحمه الله يعطيهم الفتوى الا من خلال المحكمة التي تقع حولهم كذلك كان مقصدا للمستفتين ايام الحج فكانوا يزدحمون حول مخيمه كما كانوا يزدحمون حول شيخه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله ويجدون حلولا لأخطائهم في الحج تختلف عن فتاوى غيرهم فقد كان مبدؤها التسامح عن الخطأ والنسيان حينما يفتي الكثير من المشايخ في دم لاكثر الاخطاء مما يكبد الناس خسائر.
اما خطبة الجمعة فكانت تختلف عن خطب الكثير فكانت تركز على الكثير من احكام العبادات والمعاملات وكانت تناسب الزمن والاحداث فكان المصلون يخرجون من الجمعة بأفضل حصيلة علمية يستفيدون منها طيلة حياتهم جريا على نهج شيخه عبدالرحمن السعدي رحمه الله وكان يخصصها للمناسبات ويعدل بها الكثير من الاخطاء المنتشرة.
وكان من ابرز صفاته رحمه الله انه لا يفوت الفرصة في اي امر يتطلب سرعة الانكار فلا يكاد يحضر حفلا او مناسبة علمية او محاضرة فتمر كلمات تنافي الشرع الا وينكر ما ورد فورا كائنا من كان المتحدث او المتحدث عنه وهي صفة شجاعة لا تكاد تتوفر في الكثير من العلماء لأن مشكلة المجاملة تسيطر على الكثير من الناس ولربما الحياء فكان يكسب بهذا العمل رضا الكثير من الناس حتى من ينكر عليهم تحقيقا لقول المصطفى من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس كما كان يفكر فورا على من يأكل او يشرب باليد اليسرى او يسبل ثيابه فيستفيد فاعل المنكر والحاضرون وتكون حياته درسا لا ينسى.
كما كان سريع الغضب لله سبحانه حينما تنتهك محارم الله سبحانه وان كان لا يظهر ذلك للناس.
واخيرا نقول: وداعا يافضيلة الشيخ محمد طبت حيا وميتا وتبوأت باذن الله من الجنة منزلا سائلين الله سبحانه ان يجمعنا بكم في دار كرامته في الفردوس الاعلى في الجنة ووالدينا والمسلمين كافة مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا كما اسأله ان يهب للأمة الاسلامية علماء ربانيين وان يكف بهم بأس الذين كفروا والله اشد بأسا وأشد تنكيلا.
د, عبدالله بن حمد الجلالي
عنيزة

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved