| متابعة
الحمد لله (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) وصلى الله وسلم على خير الثقلين الموجه ب (تعزّوا عن مصائبكم بي) رواه أحمد في المسند .
الحزن يقلق والتجمل يردع
والدمع بينهما عصيٌّ,, طيِّعُ |
ف (إنا لله، وإنا اليه راجعون) من قبل ومن بعد:
قال سبحانه مزكيا ثلة من عباده: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه,,).
كالوالد العلم صاحب الفضيلة الشيخ: (محمد بن صالح العثيمين) رحمه الله رحمة واسعة؛ نقول ذلك بمقتضى ما نعلمه عنه، وموافقة لقوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في أرضه).
نقول بذلك,, ونزفها بشرى (لك) فهذه القلوب المكلومة لفقدك، المتدفقة بالحب، هي علامة على حب الله لك، وهي إن شاء الله صدى لحب علوي فزت به,, فأثمر قبولاً في الأرض، وفي الحديث: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل فقال: يا جبريل، إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل وينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء,, ثم يوضع له القبول في الأرض).
ولقد كان لنبأ وفاة سماحته أثر عظيم على نفسي، إنه لخبر مفجع يهز المشاعر ويدمع العيون، إذ فقده يعد فيما يعد خسارة كبيرة للأمة الإسلامية أجمع.
نم نبكي ذلك (العلم) الذي هو ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، كنا نغترفه منك بياناً صافياً واستنباطاً دقيقاً وحجة دامغة تنير للمستفتي ما خفي عليه علمه ولقد صدقت (د, رقية المحارب) بأن:
(هذه المكانة الرفيعة للشيخ رحمه الله في قلوب الناس كانت نتيجة البذل والتضحية والتعليم والدعوة والجهاد الكبير في كل ميدان).
1 الشيخ:
قال أبوتمام:
كذا,, فليجلَّ الخطب وليفدح الأمرُ
فليس لعين لم يفض ماؤها,, عذرُ |
عن 74 عاماً وعشرين يوماً رحل الى من إليه المرجع والمآب,, إنه/ أبو عبدالله (محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين (1) الوهيبي التميمي).
تلميذ شيخه الأول وصاحب التفسير العظيم (تيسيرالكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) عبدالرحمن بن ناصر السعدي ت 1376ه الذي قال فيه: (لقد تأثرت كثيراً بشيخي عبدالرحمن السعدي في طريقة التدريس، وعرض العلم، وتقريبه للطلبة بالأمثلة والمعاني).
كما اسدى عن شيخه الثاني كما يسميه فقيدنا (ابن باز) رحمهم الله ب (تأثرت بالشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله من جهة العناية بالحديث وتأثرت به من جهة الاخلاق أيضاً وبسط نفسه للناس).
وقد تولى إمامة الجامع الكبير بعد وفاة شيخه عبدالرحمن السعدي رحمهم الله بعنيزة التي ولد فيها والتدريس في مكتبة عنيزة الوطنية,, إضافة الى التدريس في المعهد العلمي، ثم انتقل الى كليتي الشريعة وأصول الدين فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية بالقصيم حتى وفاته.
2 أثره:
لقد تركت برحيلك مكاناً في القلب خاويا، كان معموراً إذ كنت بين أظهرنا,.
إذا ما مات ذو علم وتقوى
فقد ثلمت من الاسلام ثلمه |
فلآل عثيمين وللمسلمين عزاؤنا,, بالذي:
حل مكاناً كادت العين دونه
تكل,, فلا تدري بأيان تقعدُ
ملكت مقاليد القلوب وإنها
لمن دولة الدنيا أعز وأخلدُ
عجبت لقلب واحد,, كم تفجرت
به من عيون حولها الناس رقَّدُ |
اللهم اجبر مصيبة (الجميع) فيه، واخلف على المسلمين بالخلف الحسن:
اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أدخله مدخلاً كريماً في الجنة، وقه من عذاب النار، ومن عذاب القبر، وتقبل منا,, ومنه ما قدم من صالح الأعمال.
محاسنه جلت عن الحصر وازدهى
بأوصافه نظم القصائد والنثرُ |
اللهم ارفع درجة شيخنا في المهديين واخلفه في عقبه في الآخرين واجعلنا واياه من ورثة جنة النعيم ووالدينا ووالديهم وعلماءنا واخواننا آمين.
رحمك الله أبا عبدالله وإني لأذكر وهي إن شاء الله من عاجل بشرى المؤمن كما اخبر صلى الله عليه وسلم حين أولت رؤيا لامرأة بأن هذا الذي فيه الرؤيا مغفور له ومقبول حجه، ثم قالت: رأيتك أنت.
(للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله).
3 مآثره:
مضى (الشيخ) في سجل الخالدين، من علماء المسلمين إن شاء الله مضى الى رب عدل رحيم، رحمن كريم جواد,, فما أحرانا أن نقتفي أثر ما ترك.
المرء ليس ب (أعوام) يعيش بها
لكنه عمر من ضحى، ومن بذلا (2) |
قال سبحانه وتعالى (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).
لقد عظم الله شأن أصحاب العلم، وجعلهم أهلاً لخشيته كما قال: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
قال يحيى بن معاذ (على قدر شغلك بالله يشتغل في أمرك الخلق).
والعلم الشرعي المعتمد على الوحيين (الكتاب والسنة) من أجل العلوم على الإطلاق، وحملته هم السراج والضياء للناس وهم العدول الثقات الذين يبينون الدين للناس وهم الحماة له والذابون عن حياضه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) من هذا المعنى جاء قول إمام دار الهجرة (مالك) رحمه الله: (لقد نبّا إلي أن العلماء يُسألون عما يُسأل عنه الأنبياء).
وما ذاك الا لثقل الأمانة وهول التبعة، وأن التفريط بشيء منه,, لا يوازيه أي تفريط.
روى الإمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: (انطلق بنا الى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها فلما انتهيا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها.
والحق: أن رحيل العلماء لاشك نبأ مؤلم، ونذر خطر على إجمال وضع الأمة, قال (د, عائض الردادي) في تأبين فقيدنا ابن باز رحمه الله:
(رحيل العلماء ليس موتاً جسدياً، بل هو موت لعلم حملوا أمانته إبان حياتهم، ولن يبقى منه من بعد موتهم إلا ما سطروه في كتاب أو علموه لطلاب).
وما ابلغ من قول ابراهيم التركي: (لمحات مرت وعبرت والامة تنتقل من حزن الى حزن وترزأ كل آن برحيل علم، وتواري قمم,, وها هو آخرهم شيخنا واستاذنا محمد الصالح العثيمين يلحقُ بهم,,!!
لقد فقدت الأمة خلال السنوات الاخيرة الكثير من (العلماء والعاملين والمبدعين) بمختلف الحقول (المعرفية والثقافية)، ولن يعوضهم ندب أو يسلوهم نحيب,,).
ومع هذا فلا ينبغي لأحد ان يقول: ذهب العلماء، وذهب الصالحون ولم يبق في الناس بركة، بل نقول بقي فيهم علماء خير وصلاح إن شاء الله فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام عند الإمام أحمد وغيره من حديث انس رضي الله عنه أنه قال: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى في أوله الخير أو في آخره) فما زال في هذه الأمة ولله الحمد علماء خير وصلاح وعقيدة فهي أمة مباركة أينما كانت فهي تعطي الخير وتنشر الصلاح في ارجاء البلاد والدين دين الاسلام رسمه الشارع وهو لا يقوم على الأشخاص وإنما تكفل الله به الى يوم الدين.
إنما عزاؤنا بعده بما ترك من أثر علمي (مكتوب) أو (محفوظ).
وكان أول كتاب طبع له قبل 41 سنة تحديدا 8/11/1380ه تلخيص الحموية,, ثم توالت كتبه الى 42 كتاباً,, ومن أشهرها مجالس رمضان والقواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى والخلاف بين العلماء اسبابه وموقفنا منه,, بالاضافة الى المجموع الكبير من الفتاوي ,, صدر المجلد الأول منه.
وتمتاز مؤلفاته (كما يثري تلميذه وليد الحسين) ب وضوح الألفاظ ووضوح في المعاني، بعيدة عن التطويل الممل، والتعقيد والاختصار المخل، استدلالاته مدعومة بالأدلة الصحيحة، والتعليلات والأقيسة الصريحة، مع إبداع في التبويب، وحسن في التقسيم، فيما يحتاج الى تقسيم، الى غير ذلك من الاساليب البديعة التي يحلي بها الكتاب حتى يخرجه في أروع وأحسن لباس),يا:
شيخ العلوم ابو الأشياخ مجتهد
فذ أريب,, نجيب وصفه درر (3)
لم يثنه ملل عن كل مكرمة
يدعو بها,, وكذا لم يثنه كبر |
أما ما لهم فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
2 اللقاء الوحيد:
كنت كلما أولّي وجهتي نحو منشئي (بريدة) أومي بطرفي إلى عنيزة وخاطري يردد مع (القرني):
إذا افتخرت بريده بمن فيها
يكفي عنيزة شيخنا فيها |
فحرصت كغيري من محبيه على ان احظى برؤياه عن قرب فلم أفز بذلك إلا ذات مرة,, فيها العجب من الشيخ ونهجه:
إذ ذات مرة صليت معه بمسجده وكان قد فاتني معظم الصلاة وما ان انتهيت تلفت لعلي استطلع مكانه فلم أجده، سألت عنه أحد تلاميذه، فقال لي ها هو وأشار إليه وقد بعد كثيرا فاستحثثت الخطى كثيراً حتى اوازيه، وبين الجامع الكبير ومنزله,, مسافة بعيدة (بقياس الأقدام),, التي ظل فقيدنا محافظا على قطعها غدواً ورواحاً واذ بين الشيخ اثنان من تلاميذه احدهم يقرأ عليه من كتاب والآخر يدوّن ما يبدي الشيخ من ملاحظات فماإن دنوت لأسلم عليه إلا وأحس بي,, فتوقف (وإذا شخصه وسحنته البهية تذكرك بذلك الرعيل الذي لا يوازيه من مشاهدة معظم الواقع,, إلا التخّيل).
سلمت، فردّ بأجمل قول وأحسن إطلالة، ثم بعد السلام سأل، فلم أردف غير: إني أحبكم في الله سعيت لأحظى بالسلام عليكم والتشرف على معرفتكم وشخصكم,, عن قرب، فقال حياكم الله، ثم استرسل الخطى وهو ممسك بيدي كإشارة,, لاستضافتي في بيته، ولكني اعتذرت مكتفياً بكرم السلام.
5 أخيراً:
(ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين).
يحسن بي وقد ادلهم بفؤادي عمق المصاب، إذ أن فجع المصيبة يحبس الفكر عن إدرار الكلام الخليق بالذكر ان اورد ما يخفف قول الأديب حمد القاضي الجزيرة عدد 10347 (إنه كما تجلت طمأنينة الإيمان وسكينته في حياة الشيخ ابن عثيمين أثناء صحته فقد تجلت خلال مرضه أكثر.
لقد روى لي أكثر من أخ كريم ان الشيخ رحمه الله كان عندما يصرون عليه من اجل الذهاب الى المستشفى كان لا يرغب الذهاب إلا بعد الإلحاح عليه وكان يرد لعلني اشتقت الى لقاء الله بل حتى عندما حاولوا ثنيه عن السفر الى مكة المكرمة في رمضان وهو في وضعه الصحي الحرج رفض ذلك مؤمناً ومشتاقاً الى لقاء ربه، ونسأل الله انه كما أحب لقاء ربه أن يكون الله أحب لقاءه، مصداقاً لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم).
الوالد الحبيب: أبكيك وقد كثر الباكون,, العيون تدمع، والقلوب تحزن,, ولا نقول بعد إلا ما يرضي الرب (إنا لله وإنا إليه راجعون).
وقد أحسن في رثائه (د, سعود الشيم) ب:
أتاه ما يجوب كل حي
بالموت حين يقطع الوتينا
محمدُ الصالحُ يا لقومي
لقينا في المصاب ما لقينا
لو أننا نُقرُّ في فداء
فيفتدى بالمال والبنينا
لكنه الممات ليس يجدي
فداؤنا المكفن القطينا
آل عثيمين ألا فصبراً
عزاؤكم مصابنا عزينا
حبر وبحر للجميع رحب
نراه إذ نراه مستبينا |
ختاماً:
قال (د, العشماوي) راثياً أحد أعلامنا الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:
رحيل أحبابنا نار مؤججة
تُذيب أكبادنا وجداً وتصليها |
لكن نقول ما ينفعه:
رحم الله (ابا عبدالله) جزاء ما قدم، وألهم (عبدالله وإخوته) واستاذينا: شقيقه (الدكتور عبدالله) و(الشيخ عبدالرحمن) الصبر وجزاهم الأجر، وجمعنا به في مستقر رحمته، والحمد لله، وصلى الله على رسول الله.
(1) تصغيرعثمان,
(2) د, حسن القرعاوي .
(3) د, سعود الشريم ,
(4) في رثاء (ابن باز) رحمه الله
|
|
|
|
|