| مقـالات
موت الكبار مولد جديد، وحالة كتلك تعني مجرد الانشطار بين الروح والجسد.
يعود الجسم إلى اصله تراباً: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم)، وتعود الروح إلى عالمها الغيبي في انتظار التلاحم من جديد (ومنها نخرجكم تارة أخرى)، (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم), (بلى قادرين على أن نسوي بنانه).
وحين يخلو ظهر الأرض من ذلك الجسم المادي، وتصعد الروح إلى بارئها، تتداعى القيم، لتحل محل الجسم الترابي, يراها الناس في البصيرة كما رأوا صاحبها من قبل بالبصر، وهنا يكون المولد الجديد، والحضور الجديد، والمعايشة الجديدة، حياة لا يملكها كل الميتين، وكم سويت الأرض بالملايين فصاروا تراباً، وقديماً قال أبو العلاء:
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد |
وخلود العظماء لا يظفر به كل الهالكين:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتَّال |
فجاج الأرض تَذرعها الأرجل، وتملؤها الجنات والقصور، وصفحات التاريخ تضيئها الأقوال والأفعال الخالدة، كل الأحياء يملكون الركض بأرجلهم على الأرض، وليس كل الأموات يملكون الركض على صفحات التاريخ بسمعتهم وأفضالهم وجميل أعمالهم.
حياة القيم على صفحات التاريخ حياة عطرة طويلة، تتوارثها الأجيال، وتتعاقب عليها الأحقاب, ولا يعايشها إلا المتميزون, الدهماء يسمعون عن الخالدين فقط، والنخب هم الذين يعيشون مع الخالدين على صفحات التاريخ، هذه الحياة ليست لكل الناس، ومعايشة العباقرة والخالدين هي الأخرى معايشة استثنائية، والقليل القليل من يستطيع الظفر بمفحص قطاة على صفحات التاريخ، لأن الثمن باهظ، وسلعة الخلود غالية، كما أن سلعة الله غالية، وهل من مثمَّن يوازي الجنة؟.
والخلود ثمن وقيمة، ولا يمكن تحقق الاثنين للخلف إلا بالاستيعاب والتمثل، فذكر الخالدين لا يكون إيجابياً حتى يتخطى به المتلقي مرحلة المتعة الى الاقتداء، والتاريخ مدرسة وأفضله تاريخ الرجال، فتاريخ الرجال للاقتداء، وتاريخ الأحداث للاعتبار، ولا يسعد عظماؤنا في قبورهم حتى يكونوا قدوة صالحة لمن بعدهم.
الزعماء والقادة والعلماء والمفكرون والمصلحون وحملة الهم الجماعي والمؤثرون على أنفسهم والعصاميون والمخترعون هم وحدهم الذين يولدون ساعة يموتون، وهم الذين يمارسون بذكرهم التحدي لمن بعدهم, الموت انقطاع, والمورثون للأمجاد يظلون في الذاكرة، والصدقة الجارية، والعلم المنتفع به، والعقب الصالح مدرجة جديدة وحياة من نوع آخر.
لقد فقدنا علماء وزعماء ومصلحين واريناهم الثرى، ونفضنا أيدينا وجفت مدامعنا، وذهبت أحزاننا وعدنا إلى بيوتنا وأسواقنا وجامعاتنا ومدارسنا ومكتباتنا فوجدناهم ماثلين أمامنا بما تركوه من علم نافع، وما حققوه من إنجاز خالد، وما قدموه من تضحيات، وما اشاعوه من سيرة عطرة.
مات الرسل والأنبياء والصالحون والزعماء والقادة فغابت شخوصهم ليعودوا من جديد قيماً في كتب قيمة, وأين أنت من سير أعلام النبلاء وصفوة الصفوة وحياة الصحابة الذين جاهدوا في الله حق جهاده؟ أشاعوا الفضيلة، وأظهروا الدين، وأمنوا السبل، وأناروا الطريق، وعلموا الناس أمر دينهم، ثم اين أنت من التاريخ الحديث وعلمائه وعظمائه وقادته؟ لقد غيب الموت قادة وعلماء ومصلحين، بكاهم الناس، وخافوا على أنفسهم وديارهم من الضياع بعدهم، ولكن الله عوضهم بمن يسد الخلة وينهض بالمهمة, مات علماء الدعوة السلفية، ومات الأمراء الذين ناصروهم، ومات من قبلهم ومن بعدهم ومعهم في آفاق المعمورة رجال لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فكانت سيرتهم قدوة ونبراساً, وفي كل يوم يخطف الموت عزيزاً، وتخلو الثغور من حماتها، ويحس الناس بفراغ مفزع وينتابهم الخوف من كل جانب، وكأن العالم الورع التقي سور له باب يحتمي الناس بداخله يتقون به سهام الفتن وعوادي الزمن، ومع الإيمان بأن الموت حق إلا أن ساعة المواجهة مربكة، فالقلب يحزن والعين تدمع، ولكن الصابرين المحتسبين لا يقولون إلا ما يرضي الله, وهل أحد أشد بأساً من عمر بن الخطاب؟ لقد اختل توازنه بموت الحبيب، وأشهر سلاحه في وجه من قال: إن محمداً قد مات، وغاب عنه أن تلك سنة الله في خلقه (كل نفس ذائقة الموت), (إنك ميت وإنهم ميتون), (أفإن مت أفهم الخالدون), (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً).
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمول |
وحين عاد أبوبكر من ضيعته بكل ما يحمل من ثقة بالحي الذي لا يموت أعاد المسلمين الى رشدهم، واستأنف معهم الحياة،وكأن محمداً لم يمت.
والرهبة والخوف الحقيقيان مما بعد الموت، (يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد), تلك لحظات الرهبة وساعات الخوف، والأمة المبتلاة بنقص الأنفس تودع رجالاتها بالثناء والدعاء والذكر الجميل، وتحاول ان تسد الفراغ الذي تركوه، وتنهض بالمهمات التي تخلوا عنها، وقد تمنى الأمة بفقد عظمائها بحالة من التردد، وقد يترك موت العظماء فراغاً لا يمكن ملؤه إلا بعد جهد جهيد، فتتعرض مسيرة الأمة للارتباك.
أقول قولي هذا والبلاد تعيش حالة من الحزن والألم على فقد علم من أعلام البلاد وركن من أركان الدين، وهل أحد يجهل العالم الفذ والفقيه المجتهد والعابد الورع الزاهد محمد بن صالح بن عثيمين (1347 1421ه)؟.
لقد عاش حياته في طلب (العلم الشرعي) من تفسير وحديث وفقه واصول و(العلم العربي) من نحو وصرف ولغة بوصف اللغة العربية وعاء الدين، و(علم الكلام السلفي) لتصحيح العقيدة ومواجهة التيارات المادية والمذاهب المنحرفة، تلقى كل ذلك على ابرز علماء نجد، وبخاصة شيخه العلامة عبدالرحمن بن سعدي (ت 1376) رحمه الله، وكلاهما امتداد للمدرسة السلفية التي من أبرز علمائها ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومن ورائهم علماء الدعوة السلفية النجدية، ثم بذل ما توفر عليه: تعليماً وإفتاءً وتأليفاً، ولقي في اجتهاداته ومبادراته النصب والتعب، فقد كان من علماء المذهب الحنبلي المجتهدين الذين استفادوا من اجتهادات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، كما امتد نظره الى ما اطمأن اليه من آراء ابن حزم في (المحلى) وابن عبدالبر في (التمهيد) وجهابذة علماء المذاهب الاسلامية، ولم يأخذ بقول غير معزز بدليل قطعي او قياس جلي، ولم يجد حرجاً من الترجيح، فقد اشار بعض طلبته الى ما خالف به شيخ الإسلام فيما يتعلق بصلاة الجماعة والسعي وسفر المرأة مع الأمن دون محرم والجمع بين الأختين من الرضاعة، كما أشار الى آرائه إزاء النوازل التي حارت بها الافهام وزلت بها الأقدام، وقد كان لاجتهاداته ومبادراته الأثر الواضح في شيوع ذكره، واحتفاء الأوساط العلمية به واستئناسهم بفتاواه, وكان رحمه الله الفقيه المتمكن في لغته ووعيه للمقاصد، وإلمامه بالقواعد، وحجته البالغة، وحرصه على التيسير والأخذ بما هو أرفق بالأمة وتنبهه للضرورات وضوابطها والبدع ودركاتها، ومن ثم حمل الأثير إلى آفاق المعمورة آراءه وفتاواه، وكانت مثار إعجاب جماهير العلماء، ولما لم يكن ميالاً الى التأليف فقد هب تلاميذه لتدوين دروسه وتعليقاته على المتون وبخاصة متون الفقه الحنبلي ورسائل ابن تيمية العقدية ك(الحموية) و(التدمرية)، وجمعوا فتاويه ولطائف تفسيره وتدريسه لعلوم اللغة مع ما قام به رحمه الله من مؤلفات وما كتبه من رسائل، وما خطه من محاضرات، وما تداوله في المؤتمرات من أحاديث، فما فقدت الأمة شيئاً مما قاله, وتلك من نعم الله عليه وعلى الأمة, ومن حسناته أنه لم يندفع وراء التسييس الثوري للإسلام، ولم يشأ ربط خطابه الشرعي بالنوازل السياسية، ولم ينجرف في تيار الخطاب الإعلامي، ولهذا ارتبط بالفكر السياسي السلفي القائم على البيعة والشورى ومناصحة ولي الأمر وتوظيف الإمكانيات العلمية لمصلحة الأمة والحرص على جمع الكلمة ودرء الفتن والمفاسد.
لقد عرفت فضيلته عن قرب، وكلما استمعت إليه أو اقتربت منه بحكم العمل المشترك في فرع الجامعة أحسست أنني أمام شخصية فذة في تواضعها وغزارة علمها وبعد نظرها وزهدها في مباهج الحياة واشتغالها فيما يهم الناس من أمر دينهم، وكلما استمعت إليه يتحدث في أمر من أمور الدين، أدركت كم هو الفرق بين لغة الفقهاء وكلام المنشئين، وحين يخرج من قاعة الدرس في الكلية يلتف من حوله الطلبة، يسألونه ويستفتونه ويراجعونه فيما لم يقتنعوا فيه، وهو يجيب ويفتي واقفاً أو ماشياً، وقد يحتدم الخلاف بينه وبين تلاميذه الذين غرس فيهم الثقة والجرأة حتى إذا بلغ مكتب العميد أو مقر القسم عاد إلى القاعة دون أن يأخذ ما يأخذه زملاؤه من الراحة.
لقد نقل العملية التعليمية من الإلقاء والتلقي الحشوي الى الحوار والمراجعة والمشاركة، وضخ في شرايين الدرس الفقهي المتني الواحدي المذهب أو قل المقدم من المذهب ما عرف بالفقه المقارن بحيث استدعى النص ومارس مع تلاميذه الاستقراء والاستنباط فكان في درسه لا يعطي الجاهزيات وإنما يعلم الطريقة, فلم يكن يوزع السمك وإنما كان يعلم كيف يصاد، ومن ثم أتاح الفرصة للرأي الآخر وخرج العلماء، ولم يخرج الحفظة، لقد أنس بمقارعة الحجة بالحجة ومواجهة الرأي بالرأي، وكانت ثقته بالنص وإيمانه بتجدد معطياته وفق النوازل سبيلاً لتواصل التجديد وتعدد التحولات ومراقبة المبادرات، أعطى الطلبة حق الإسهام في صناعة القضايا واستكمال متطلباتها، حتى لقد وجد فيه الطامحون مضامير لاكتشاف قدراتهم، وتحول درسه الى ما يشبه المرافعات القضائية، كل طالب يقول ما في نفسه، وفضيلته يتفجر علماً ومعرفة, يسوق البرهان تلو البرهان، والحجة في أعقاب الحجة، لا يضن بعلم، ولا يبخل بجهد، ولا يتردد في سبيل إرشاد ضال أو تعليم جاهل، وهو إلى جانب ذلك رجل محسن يسعى في حاجات الفقراء والمساكين, يدعم الجمعيات، ويجمع لها التبرعات، ويشفع لكل ذي حاجة عند ولاة الأمر, ويتفقد أحوال معارفه وجيرانه، توفي أحد جيرانه قبل أسبوع من وفاته فهاتف أولاده من المستشفى في جدة معزياً ومواسياً وداعياً وناصحاً لهم، وقال لهم بالحرف الواحد: أنا مريض ولا أعلم ما يكتب الله لي فاستوصوا بوالدتكم وإخوانكم الصغار خيراً, وقالت تلك الأم المفجوعة بزوجها: إن ألمنا بوفاته لا تقل عن ألمنا بوفاة عائلنا, ومن ثم لم يكن رجل علم لا يبرح مكتبه أو مكتبته، ولكنه كان جوّاب أرض, يبذل الجهد والمال والوقت في سخاء وطيب نفس، وكان موته فاجعة للامة، والدولة التي تقدر العلم والعلماء تتقبل التعازي به كما لو كان من الأسرة, والناس تخشى أن يكون هذا الموت النقاد الذي طوى الجهابذة من العلماء من باب ذهاب العلم، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، وهو لا ينطق عن الهوى، فالله لا يقبض العلم انتزاعاً من الصدور، ولكن يكون بموت العلماء الأفذاذ الواحد تلو الآخر، والعلماء ورثة الأنبياء، وهم الأعرف بالله والأخشى له، وهم الأرفع درجات، وإذا تساقط الشوامخ خلت الأرض من أطنابها، وفقدت رسوَّها وثباتها، وأخذ الناس الاضطراب، والذين يستخفون بذهاب العلماء، ولا يعرفون أثرهم الخفي الذي يدب في أوصال الحياة كما الدماء تركض بالحياة في شرايين الأمة لا يقيمون وزناً لأثرهم، ومن المؤسف والمؤلم فقد احترام العلماء والتعامل معهم دون الاحتفاظ بأقدارهم، فالعلماء الأجلاء يختلفون حول النوازل ويتراجع بعضهم عما أخذ به، ولا يسيء أحد منهم الأدب مع أقرانه، ولا يتهمه عند العودة الى الحق فهم جميعاً يبحثون عن الحق ولا يفكرون بالانتصار، ولو أن بعض المتسرعين قرؤوا كتب الخلاف والفقه المقارن وكتب الخلاف داخل المذهب الواحد (كالأنصاف) لعرفوا اختلاف العلماء وسعيهم الدؤوب وراء الحق وتأدب بعضهم مع بعض.
رحم الله فقيد الأمة وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان وجبر مصاب الأمة وعوضها عنه بمن بقي من علمائنا الأفذاذ.
|
|
|
|
|