| العالم اليوم
* بروكسل واس
تمر العلاقات الأوروبية الاطلسية بأزمة صامتة ولكنها حقيقية بشأن تداعيات أعراض الحرب البلقانية على العديد من العسكريين الأوروبيين حالياً والذين عملوا ابان تدخل حلف شمال الأطلسي عام 1995 في البوسنة وعام 1999 في أقليم كوسوفا.
ويسعى الحلف الأطلسي جاهداً إلى احتواء هذه الأزمة والتي باتت تعرف بأزمة اليورانيوم المستنفد في إشارة إلى استعمال قوات الناتو تحديدا طائراته المقاتلة من نوع (أو اي 10أ) لقذائف تحتوي في تركيبة تصنيعتها على مادة اليورانيوم المخفف الكثافة أو المستنفد والذي يعتبر من أعتى المواد القادرة على اختراق المدرعات في ساحات القتال حاليا.
وتتمثل الاستراتيجية الاعلامية والسياسية التي اتبعها حلف الناتو حتى الآن في انتهاج استراتيجية قوامها التحول من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم أي التركيز على مبدأ الشفافية التامة في التعاطي مع هذه القضية وعدم محاولة اجهاض أية عملية للتحقيق الإعلامي أو الطبي أو العلمي وتمكين وسائل الإعلام وحتى إغراقها بالمعلومات والبيانات والتصريحات في مرحلة أولى قبل الكشف نهائيا عن حقيقة تداعياته الصحية.
ويخشى الحلف بشكل رئيسي تصدعا داخل صفوفه قد يؤدي إلى بلبلة في وسط الرأي العام الأوروبي من جهة وربما بداية تحقيقات علمية ميدانية ليس فقط على العسكريين العاملين في البلقان ولكن أيضا على المجندين هناك من سكان المنطقة الأصليين وما قد ينتج عنه من مشاكل مستعصية قد تؤدي إلى إجلاء القوات الأطلسية برمتها من جنوب شرقي أوروبا.
ولا توجد أدلة علمية دامغة وثابتة بشأن علاقة الركون الأطلسي لليورانيوم المستنفد والاصابات السرطانية المسجلة لدى عدد من العسكريين الأوروبيين الذين عملوا في البلقان وهذا لا يعني انعدام هذه العلاقة ولكن انعدام وجود أدلة حتى الآن.
وتوجد العديد من التأويلات لدى المسؤولين الأوروبيين والأطلسيين والدوائر الطبية منها دحض وجود علاقة بين اليورانيوم المستنفد والاعراض البلقانية والتأويل الثاني والذي تشجعه المفوضية الأوروبية والذي يدعو إلى الحذر وتشكيل لجنة طبية علمية أوروبية مستقلة عن الناتو ستبت في الموضوع خلال شهر من الآن والتأويل الاكاديمي العلمي البحت والمتمثل في احتمال وجود علاقة لليورانيوم المستنفد في حرب البلقان مضافا إلى مادة أخرى وهذه الأعراض واحتمال تعرض العسكريين الأوروبيين إلى مادة أخرى أو تلقيحات موازية غير معلنة تكون السبب في الأعراض وهو أمر سيكون اخطر مما هو معلن حاليا.
وأمام هذه المعطيات فان سباقاً متعدد الاوجه ومتعدد الأهداف يجري بين الناتو والاتحاد الاوروبي وقد يأخذ أبعادا دولية في المستقبل إذا ما تواصلت حالات الإصابة بأعراض حرب البلقان وهذا السباق هو سباق سياسي أولا بين الناتو وأوروبا وسباق علمي واستراتيجي وعسكري بين الطرفين.
فعلى الصعيد السياسي قرر الحلف الركون إلى استراتيجية المناورة أي تجنب المواجهة الجبهوية مع أوروبا ولكن دون الاعتراف بأي مخاطر لليورانيوم المستنفد ومن هنا اجهاض الحلف للمحاولة الإيطالية البرتغالية بتعليق مؤقت لاستعمال اليورانيوم المستنفد حتى اتضاح الحقائق.
وأعلن الحلف مقابل ذلك ان لجنة علمية متخصصة تنتمي لكل دول الحلف ستبدأ اعتبارا من 15 يناير الجاري ولفترة طويلة عمليات البحث والدراسة والمعاينة المختلفة بما في ذلك معاينة حالات الجنود العاملين حالياً في البلقان ويعتبر الحلف ان هذه الإجراءات دليل على حسن نواياه لكنه يشدد على انعدام المخاطر الفعلية رغم افتقاره إلى أدلة دامغة حول ذلك.
على الصعيد الأوروبي تتمثل الخشية الرئيسية في ان تضاف قضية اليورانيوم المكثف إلى قضايا الصحة العامة الأخرى والخطيرة والتي تنهش مقومات البناء الأوروبي نفسه.
وأهم هذه القضايا هي أزمة جنون البقر المتفاعلة سياسيا حاليا في أكثر من دولة وأزمة الديكوسين ومحاولة أوروبا التعتيم عليها وما يسبب ذلك من أزمات حادة متواصلة حاليا كانت ذروتها استقالة المفوضية الاوروبية السابقة بزعامة (جاك سانتير) في مبادرة منقطعة النظير منذ بداية عملية البناء الأوروبية.
وقد ترددت الدوائر الحكومية في الواقع في التعامل مع أزمة اليورانيوم المستنفد ولعبت الحكومة الإيطالية الحالية دوراً رئيساً في تفجير القضية وتوجد أيضاً شكوك كبيرة لدى الدوائر الأطلسية والأمنية الأوروبية ان الحكومة الفرنسية لعبت دورا كبيرا في اذكاء الموضوع لعدة أسباب منها إجبار الإدارة الأمريكية الجديدة بزعامة بوش على عدم سحب قواتها من البلقان كما اعلن بوش في السابق باعتبار ان أي انسحاب أمريكي حاليا يعتبر فرارا من أزمة اليورانيوم المستنفد.
كما أن فرنسا تريد النيل من سمعة حلف النيتو في وقت تعمل فيه واشنطن على إعاقة مشروع الدفاع الأوروبي الموحد وشجعت فرنسا في هذا الاتجاه جميع مبادرات الاتحاد الأوروبي لتولي إدارة أزمة اليورانيوم خارج الناتو وان فرنسا عملت بوضوح على الحصول على دعم مباشر من الأمين العام السابق لحلف الناتو ومسؤول السياسة الخارجية الأوروبية خافير سولانا الذي فاجأ الجميع بدعوته يوم الأربعاء 10 يناير إلى ضرورة القيام بتحقيقات دقيقة ومعمقة حول القضية رغم كونه كان مسؤولا عن الحلف ابان حرب كوسوفا.
ومهما كان المنحى الذي ستتخذه عمليات التحقيقات والمعاينة سواء في منطقة البلقان نفسها أو على المصابين من العسكريين الأوروبيين فإن قضية اليورانيوم المستنفد قابلة للتطور صحياً وسياسيا فعلى الصعيدالصحي وان ثبت وجود علاقة بين الإصابات المسجلة حاليا واليورانيوم المستنفد فإن جميع الجنود الذين عملوا في البلقان سيواجهون موقفا جديداً وسيخلقون وضعا غير مريح للحلف وإذا ما لم يثبت أية علاقة بين اليورانيوم المستنفد والأعراض البلقانية فإن الوضع سيكون ليس بالأفضل لانه سيجري البحث عن المسببات الفعلية للأعراض واحتمال اخفاء الناتو لأنواع أخرى من الأسلحة.
وعلى الصعيد السياسي فإن استراتيجية إنتاج الشفافية المطلقة حاليا على الصعيد الأوروبي والصعيد الأطلسي لن تكون كافية إلا في حالة للرد على أسئلة محددة ومنها الكشف الفعلي عن جميع أنواع الأسلحة التي تم الركون إليها وليس فقط عن بعضها وهو أمر لن تقبل به القيادة الأطسلية.
وتكشف أعراض حرب البلقان على صعيد آخر نهاية أوهام الأطلسي والغربي عامة بأن الحروب الحديثة والمتطورة يمكن ان تكون أولاً حروباً نظيفة وثانيا خالية من الخسائر.
ووفاة العسكريين الأوروبيين الذين عملوا في البلقان الواحد بعد الآخر حالياً في إيطاليا وبلجيكا والبرتغال وفرنسا يؤكد أن خسائر الحرب البلقانية تتصاعد يوما بعد يوم رغم إعلان الناتو انه كسبها دون ضحايا في صفوفه.
ومن المرجح وإذا ما استمرت ضغوطات الرأي العام الأوروبي على وتيرتها الحالية ان تدخل الدوائر الأوروبية في أزمة مماثلة لأزمة وباء جنون البقر وحالة من الهلع ستؤدي إلى تنفيذ برامج صحية مكلفة وباهظة وستلقي بثقلها على ما هية التحالف الأوروبي الاطلسي نفسه.
|
|
|
|
|