| متابعة
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من اهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائهٍ قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينهون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة.
والصلاة والسلام على من تقاسم العلماء تركته العلم والحكمة، فما بين مقل ومستكثر، الذي انزل الله عليه قوله يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات نبينا وأسوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وذريته وأزواجه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, اما بعد:
فإن للعلماء اثراً عظيماً على البشرية، فهم حماة الدين وحراسه، والمنابذون عنه إلى قيام الساعة، وهم سرج الأزمنة، فكل عالم مصباح زمانه، فيه يستضيء أهلُ عصره، وهم الذين ينسخون مكايد الشيطان، فكم فتنة برمها الشيطان وزينها لكثيرٍ من أهل الجهل والهوى، واراد ان يكيد بها المسلمين فقمعها العلماءُ، علماءُ السنة والحديث، وفندوا شبهها، حتى أصبح أهلها كالبعير الأجرب.
لقد ورد في فضل العلماء كثير من النصوص والآثار، فقد قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال تعالى قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وقال تعالى شهد الله إنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط , فالله تعالى عظم مكانة العلماء، حيث ربط شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وحصر الخشية منه بأهل العلم, وذلك لأنهم بعلمهم عرفوا ربهم بأسمائه وصفاته وافعاله، وعرفوا قدره، وموجب حكمته فأدى بهم هذا الى خشيته سبحانه وتعالى.
وعن معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي امر الله
وفي رواية لاتزال طائفة من امتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون .
قال الإمام احمد بن حنبل عن المراد بهذه الطائفة: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا ادري من هم, وقال البخاري انهم هم اهل العلم، وقال احمد بن سنان هم اهل العلم أصحاب الآثار, وقال وهب بن منبه: الفقيه العفيف الزاهد المتمسك بالسنة، اولئك اتباع الأنبياء في كل زمان, وقال سفيان بن عيينة: أفضل الناس منزلة يوم القيامة من كان بينه وبين خلقه, يعني الرسول والعلماء.
وقال سلمة بن سعيد: كان يقال العلماء سرج الأزمنة، فكل عالم مصباح زمانه، فيه يستضيء أهلُ عصره، قال: وكان يقال العلماء تنسخ مكايد الشيطان.
فهذه النصوص توضح مكانة العلماء وفضلهم وعظم منزلتهم, وان موت العلماء ثلمة في الدين، وخسارة فادحة للإسلام والمسلمين، فبموتهم يذهب العلم، ويظهر الجهل، ويترأس الناسُ الجهال, فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال (ان الله لا يقبض العلم انتزاعا من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى اذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا , وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كيف أنتم اذا لبستكم فتنة، يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة، فاذا غيرت، قالوا غيرت السنة؟ قالوا: متى ذاك يا ابا عبدالرحمن؟ قال إذا كثرت قراؤكم وقلّت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة, وقال ايضا رضي الله عنه (عباد الله, تدرون كيف ينقص الاسلام من الناس؟ قالوا نعم، كما ينقص سمن الدابة، وكما ينقص صبغ الثوب، وكما يقسو الدرهم لطول الجيب, فقال: هذا منه، ولكن أكثر من ذلك ذهاب العلماء، يكون في الحي العالمان، فيموت احدهما فيذهب بنصف علمهم، ويكون في الحي العالم فيموت فيذهب بعلمهم، وبذهاب العلماء يذهب العلم) وقال ايضا رضي الله عنه (لايأتي عليكم يوم الا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست اعني رخاءً من العيش يصيبه ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون وقال ايضا رضي الله عنه (لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله، وماذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الاسلام ويهدمونه .
فالأمة لاتزال بخير عظيم وعلى صلاح كبير ما دام بين ظهرانيها العلماء، علماء الأثر والسنة فإذا مات العلماءُ وتساوى الناس، كثر فيهم الشر والفساد والانحراف، ووجد أهل الجهل والهوى منفذاً لإظهار رؤوسهم وترؤسهم الناس بالجهل والهوى، فيضلّوا ويُضلّوا.
هذا وان العامين الأخيرين شهدا فقدان الأمة الإسلامية لعلماء أفذاذ، وجهابذة زهاد، واحد تلو الآخر، تتابعوا كتتابع سقوط الخرزات من نظمها، وهم الأئمة الأعلام، والعلماء السلفيون، اصحاب السنة ودعاتها، فأولهم سماحة الإمام العلامة عبدالعزيز بن عبد الله بن باز ثم لحقه بعده بيسير الإمام المحدث محمد بن ناصر الدين الألباني، ثم النجم الثالث، البحر الفهامه،والإمام العلامة، الشيخ السلفي محمد بن صالح العثيمين رحم الله الجميع, فموت هؤلاء الأئمة، الذين كانت مكانتهم مرموقة، وكلمتهم مسموعة، خسارة على الأمة الإسلامية وأي خسارة وثلمة للإسلام وأي ثلمة, فإنا لله وإنا اليه راجعون، ولانقول إلا ما يرضي ربنا، ونسأله ان يخلف على الأمة بخير، وأن يحفظ لنا علماءنا الموجودين، وان ينشر بهم السنة والحق، وان ينفع بعلمهم الأمة.
إن موت هؤلاء الأئمة، وتتابع وفاتهم ينبغي ان توقظ قلوب طلاب العلم للتشمير بجد لطلب العلم والفقه في الدين، وخاصة علم السنة والحديث, فإن مما تميز به هؤلاء الأئمة الثلاثة اهتمامهم بعلم السنة والحديث،واتباع الدليل من الكتاب والسنة والتجرد له على فهم السلف الصالح، وهذا مما رفع شأنهم، وأعلى مكانتهم وجعل الله لهم به القبول في الأرض، فإنه ما علت منزلة عالم، وظهر نجمه وتبوأ منزلة في القلوب، وكان لفتاواه قبولا، الا بتعظيمه للسنة والحديث واتباعه الدليل.
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، ان يتغمدهم بواسع رحمته، وان ينزلهم منازل الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا, اللهم ياربنا اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم،وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، وجازهم عما قدموه للإسلام والمسلمين خير الجزاء، اللهم ياربنا اجبر مصابنا فيهم، واخلف لنا في خير يارحمن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله واصحابه اجمعين.
ثقيل بن صلفيق القاسمي الظفيري
|
|
|
|
|