| متابعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فحَدَثان قدرهما الله عز وجل في آخر هذا الأسبوع، (وكل شيء عنده بمقدار) حدث سماوي علوي، وحدث أرضي سفلي.
أما الحدث السماوي فانخسف القمر وذهب نوره، ذهب نوره الحسي فَهُرِعَ الناس إلى ربهم مقتدين بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم هُرِعَ الناس إلى المساجد، معترفين بذنوبهم، يخشون عقوبة ربهم يخافون بتخويف إلههم، يصلون صلاة عجيبة، لا يصلون نظيرها في غير هذا الحدث، يصلون أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات، فهي صلاة عجيبة، تناسب حدثا عجيباً، أعقبها النبي صلى الله عليه وسلم بخطبة عجيبة أيضاً، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكر في خطبته ثلاثة أشخاص بأعيانهم، وذكر أعمالهم التي أوجبت لهم دخول النار، ذكر عمرو بن لحي الخزاعي، وذكر صاحبة الهرة وذكر صاحب المحجن، وهؤلاء الثلاثة إذا تأملت حالهم، لوجدت كل واحد قد استقل بمعصية هي أصل في مجالها.
أما الأول: وهو عمرو بن لحي الخزاعي فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجرُّ قُصبه يعني أمعاءه يجرها في جهنم، وأمّا عمله فبئس العمل فهو أول من أدخل الشرك على أناس موحدين، جلب إليهم الأصنام ونصب لهم الأوثان، وسيَّب السرائب وهي الإبل ينذرونها لأصنامهم، وفي هذا يا عباد الله أشدُّ تحذير ان يجعل الإنسان نفسه باب شر على الناس في عقائدهم أو أخلاقهم أو معاملاتهم، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة,.
فإن من جلب للناس شرا لم يعرفوه إلا عن طريقه، أوكانوا عارفين به وفي غفلة عنه فإنه يكون عليه إثمه وإثم من تأثر به إلى يوم القيامة.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سنّ القتل متفق عليه.
فاحذر يا عبدالله احذر ان تكون باب شر على أهل بلدك أو على أهل بيتك فتكون مَذَمة لك في الدنيا وإثماً عليك في الآخرة، فلا تبع شيئا محرماً، ولا تعن من يبيعه ولا تشتر لأهلك أو تدخل بيتك ما يكون فتنة لهم في دينهم أو دنياهم.
وأمّا الثانية: فهي صاحبة الهرة، امرأة ربطت هرة عندها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، ربطتها حتى ماتت جوعاً رآها النبي صلى الله عليه وسلم تعذب في النار بسبب هذه الهرة فهذه عاقبة الظلم، وإن الله تعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، فلئن عذبت امرأة في ظلم هرة لا تعقل فكيف تقر عين من ظلم عبداً من عباد الله، فمنعه حقه الواجب أو اعتدى عليه، فأين بعض الكفلاء الذين ظلموا مكفوليهم، وأين بعض الأزواج الذين ظلموا أزواجهم فلم يمسكوهن بمعروف ولم يسرحوهن بإحسان، استغلوا ضعفهن وتمسكهن بهم لأجل ما بينهم من الأولاد، فلم يعطوهن حق المعاشرة، ولا واجب النفقة وربما، ضربوا ضرباً مبرحاً لأتفه الأسباب وإن ربك لبالمرصاد.
وأين بعض الأولياء والآباء الذين ظلموا أولادهم ففرقوا بينهم في المعاملة والعطية فوقعت بينهم العداوة والبغضاء، وأين بعض الأولياء والآباء الذين ظلموا بناتهم فلم يعطوهن الواجب من التربية والرعاية، وربما منعوهن الأزواج الأكفاء حتى لا ينقطع ما تدرُّه عليه بنته من مرتبها، ألا فليعلم هؤلاء ان هؤلاء البنات الضعيفات ان لم يستطعن ان يأخذن حقوقهن في الدنيا، فإنهن خصم لك يا عبدالله يوم القيامة وليعلم كل ظالم قد ظلم أحدا في هذه الدنيا مظلمة مال أو دم أو عرض، ليعلم انه على خطر عظيم.
وأن سنة الله تعالى ان يعاجل الظالم بعقوبته في الدنيا مع ما يوفره له من العذاب في الآخرة، (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم)، ولا تنس أيها الظالم ان بيد المظلوم سلاحاً يوشك أن يسلطه عليك فتندم حين لاينفع الندم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)), وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد .
وأمّا الثالث: فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم صاحب المحجن والمحجن هي العصا المحنية الطرف يسرق بها الحجاج، فإن فطن له أحد قال تعلق متاعك بمحجني، وإن غُفِل عنه ذهب به، فهذا ذنبه، تحايل مكشوف على أموال الناس، بل على من قصد ماعند الله من حجاج بيت الله، فما ظنك بما سوف يكون مع الحاج وما ظنك بما سوف يتعلق من ماله بهذا المحجن، ولكن يا عباد الله إن التطلع إلى ما في أيدي الآخرين والتحايل على أموالهم مرض تبتلى به بعض النفوس، فالحلال عندهم ما يحل في اليد، ولا تسأل عن وجهه وطريقه، فالغش في السلع، وإظهار الرديء بمظهر الجيد، وإخفاء العيوب أصبح حذقا ودليلا على القدرة على تصريف البضائع، والرشوة يأكلها على عمل واجب عليه أصبحت أتعابا وخدمة، وهكذا السلع عند الدلالين يتبايعونها بينهم فلا يرجع صاحبها إلا بأقل ثمن.
والحدث الآخر: الحدث الأرضي فموت عالم وفقيه ومجاهد وانتبه ياعبدالله فلا علاقة بين حدث كسوف القمر وحدث موت أحد من الناس، ولا لقرب موته أيضاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته .
قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال الناس: انكسفت الشمس لموت ابراهيم, يعنون ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جمعت الكلام بين الحدثين لأنهما حدثان مفزعان تقاربا زمنا وقد سمعت شيئا من فزع النبي صلى الله عليه وسلم من الحدث الأول.
ياعباد الله لقد ودع الناس وواروا الثرى شيخنا بل شيخ الجميع ووالد الكل محمد بن صالح العثيمين، ودّعوا فقيهاً محسناً، ومعلماً ناصحاً ومفتياً بارعا وليس المقام يا عباد الله مقام تهييج أحزان ولا إثارة عواطف، فالله تعالى يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إنك ميت وإنهم ميتون وعزانا بفقد كل أحد فقدُنا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، فكل مصيبة تهون عند مصابنا به، ويقول تعالى كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون فالموت يا عبدالله سبيل كل حي، وغاية لكل موجود كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
ولكن بموت العالم يتذكر الإنسان قول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لايقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا متفق عليه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما، وهو واقف على قبر زيد بن ثابت رضي الله عنه: هكذا يذهب العلم.
إنه مقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شأنه، والعلماء ورثة الأنبياء، ولقد كان شيخنا محمد رحمه الله تعالى نموذجاً فريداً في العطاء ونفع الأمة، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فدروسه اليومية المتنوعة، ودروسه المضاعفة في وقت إجازة الناس وعطلهم الدراسية أنتم من أدرى الناس بها يا أهل عنيزة في حين افتقرت كثير من البلدان إلى الدروس وعطلت منذ سنين فيها حلقات العلم، ودرس شيخنا وتوجيهه لعامة المسلمين وإجابته للسائلين لم يزل قائماً بها يلقيها في المسجد الحرام حتى أيامه الأخيرة، يلقيها رحمه الله تعالى بصوته المتقطع ونبراته المتعثرة، سمع الناس صوته فعلموا ان الخطب عظيم وأن الفارس يوشك أن ينزل عن فرسه، فلم يتمالكوا أنفسهم فأُجهِش بعضهم في البكاء وعلا نحيبه في أروقة المسجد ولسان حال الشيخ يقول: هذه قدرتي والله المستعان على ما أجد وأعاني، وهكذا إجابته للسائلين في الإذاعة عبر الهاتف يلقيها وهو على سرير المرض وإن شئت قلت يلقيها وهو على سرير الموت فهكذا يا عباد الله يكون العمل للدين، فلا انقطاع عن عمل صالح نستطيعه فلا تدري يا عبدالله لعل العمل الذي تثقل به موازينك وتعلو به درجاتك ويدفع الله به عنك ميتة السوء لعلك لم تعمله حتى الآن فاجتهد في إصلاح نفسك وبذل الخير لغيرك، وعزاؤنا بعد الله تعالى في علم الشيخ المكتوب ودروسه المسجلة وفي طلابه من هذا البلد ومن غيرها.
فيا معاشر الطلبة هذه رفعة الله تعالى للعالم في الدنيا وماعند الله خير وأبقى.
ومن حضر جنازة الشيخ او شاهدها علم ان لله في عبده سرا مكنونا، (والله أعلم حيث يجعل رسالته).
فما أسف على عالم استكمل أجله فقضى نحبه، ولكن تخوف على أمة بعد عالم، فالعالم سراج يضيء طريقهم يُنور بنور الله بصائرهم يعلم جاهلهم ويفتي سائلهم، ويدفع الله به من الشر ما لا يعلمه إلا الله، والعالم قذىً في أعين أعداء الدين، وغصة في حلوق المارقين ووجوده شؤم على المنافقين، والذين يريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً.
وإنه بوفاة العالم يجب ان يقف الإنسان مع نفسه وقفة يهز بها مشاعره ويحرك بها شعوره، ويدفع بها عنه ركام الغفلة فماذا أعددت ياعبدالله لمثل هذا اليوم؟
ماذا أعددت ياعبدالله لليوم الذي يقال فيه: مات فلان بن فلان؟ وفلان هو أنت تخطى الموت غيرك إليك، وطالما تخطاك إلى غيرك فأحسن العمل وقصِّر الأمل.
فكل ابن انثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلةٍ حدباء محمول |
ومن الوقفات التي يقفها المسلم في هذا الحدث العظيم والفازعة الجليلة أن يقف مع سيرة العالم وجميل مآثره وكريم خصاله، وليس هذا من باب ندب الميت وهي تعداد محاسنه، ولا من باب تزكيته على ربه، فلا نزكي على الله أحداً، (بل الله يزكي من يشاء) ولكنها ياعبدالله من باب الدروس من حياة العالم، فالعالم مدرسة، والدروس تؤخذ منه في حلقته وتُثنى الركب عنده والدروس تؤخذ من العالم من صلاته إذا صلى إماماً أو مأموماً أو منفرداً، والدروس تؤخذ من العالم في حال صحته وعافيته وإقامته، وتؤخذ كذلك منه في حال مرضه أو سفره، وإنما تؤخذ الدروس من العالم في هذه المواضع وغيرها، لأن الظن بالعالم.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنتم شهداء الله في أرضه فاستمسكوا معاشر الطلبة بما أنتم عليه وجدّوا واجتهدوا واخلصوا النية، وتذكروا حالة الأمة، فالأمة قد تسد حاجتها من كل شيء وتستغني عن كل ضرورة إلا ضرورة العالم الرباني فأحسن الله عزاء الأمة الإسلامية في فقيدها وفي سائر من فقدت من علمائها وبارك لها فيمن بقي منهم، وكتب على أيديهم الخير، وألهمهم رشدهم، ووقاهم شرور أنفسهم، وفي حق فقيدنا شيخنا خاصة نقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أبي سلمة لما دخل عليه وقد احتضر ثم قبض رضي الله عنه نقول: اللهم اغفر لأبي عبدالله محمد بن عثيمين، اللهم اغفر له وارحمه وارفع درجته في المهديين وافسح له في قبره ونوّر له فيه واخلفه في عقبه واغفر لنا وله يا رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشيخ عبدالرحمن الدهش
المحاضر بجامعة الإمام فرع القصيم وإمام وخطيب جامع الملاح بعنيزة
|
|
|
|
|