| مقـالات
لم يصل الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين الى قلوب الناس بغزارة علمه التي لا شك فيها، ولكنه استحوذ على محبة المسلمين لعمله بعلمه، وذلك فضل العالم العامل على غيره، فالعلم يحمله كثير من الناس، ولكن ليسوا كلهم يحملون أمانة العلم التي اتصف بها ابن عثيمين، فهو عاش بالعلم وللعلم، كرس كل حياته لأخذ العلم ثم لنشره، وسلك لنشره كل سبيل ممكنة بالتدريس في الجامعة، وفي الحرمين الشريفين، وفي المساجد، وفي مراكز الدعوة، وشهدت له منابر الجمعة بخطبه، والمطابع بما ألف من كتب ونشرات، وامتلأت صفحات الصحف والمجلات بفتاواه وملأ صوته أثير الإذاعة.
عرفته رحمه الله من خلال إذاعة الرياض حين أعد للإذاعة عدداً من الأحاديث والبرامج اشهرها برنامج نور على الدرب، الذي استفاد منه آلاف المستمعين، لما تميزت به فتاواه من عمق برز من خلاله تعمق الشيخ في اصول الفقه الذي يفتقر اليه كثير من المفتين، وفوق ذلك قدرة الشيخ الفائقة على استنباط الحكم من الأدلة الشرعية، ومازلت أذكر موقف الشيخ من اسم برنامج (من أحكام القرآن) في إذاعة القرآن الكريم، فقد أقرته الإذاعة باسم (أحكام القرآن) فأصر الشيخ على ان يكون الاسم (من أحكام القرآن) التزاماً منه بخلق العلماء وتواضعهم وتورعهم، فهو لم يرد ان يوصف على ما استنبطه من آيات الذكر الحكيم بأنه كل ما في الآيات من أحكام بل أدخل (من) ليكون ما يقوله شيئاً مما استنبطه من الآية، وقد ظهر في هذا البرنامج علم الشيخ رحمه الله بتفسير القرآن الكريم واستنتاج الأحكام منه، وقد بدأه من سورة الفاتحة، ولا أعرف إن كان أكمل القرآن ام لم يكمله.
كان الشيخ في فتواه يتسم بالاتزان ومراعاة حاجة المسلمين، ولم يكن ممن يدفعون الشباب المتحمس الى الغلو، بل كان بهدوئه ورزانته يكبح كثيراً من اندفاع المندفعين لما فيه من حكمة ومراعاة للمصالح العاجلة والآجلة، ولم يكن يصدر الفتوى إلا بدليل، ولو اتضح له خلاف ما أفتى به في الأمور الاجتهادية لم يكن يجد غضاضة في التراجع؛ لأن الفتوى عنده عبادة.
لقد انصرف الشيخ للعلم وذكّر في صفاته بصفات السلف الذين إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلا بعد أن يعرفوا ما فيهن من العلم والعمل، وهذا مما قرب الشيخ الى قلوب الناس؛ فكان ما في صدره من علم ظاهر في عمله به، وإذا اقترن العلم بالعمل صار العالم أسوة للناس، فعالم بلا عمل لا يختلف عن الناس، أما العالم العامل بعلمه فهو بهذه الصفة يجسد العلم للناس فيقبلون عليه ويأخذون العلم عنه عملاً لا حفظاً، وأسوة لا تقليداً.
ومن أهم ما ميز الشيخ انه لم يطلب بعلمه الدنيا، ولو أراد ذلك لانقادت اليه، فهو قد عاش عيشة متواضعة في سكنه، وملبسه، وتعامله مع الناس حتى أن من يخالطه وهو لا يعرفه لا يكاد يصدق أن هذا ابن عثيمين العالم، وذلك لفرط تواضعه الذي اقترن بقوة وصلابة إذا تعلق أمر بمصالح الأمة.
رحم الله الشيخ ابن عثيمين فقد فقدت الأمة بفقده عالماً كرّس حياته المباركة لخدمة عقيدة الأمة وفقهها، فرحل عالماً عاملاً زاهداً، متواضعاً خادماً للمسلمين في كل مكان، محتسباً حتى في مرضه، لم يكف عن التدريس والفتوى بل لم يقبل بعض العلاجات التي كانت ستساقط شعر لحيته احتساباً، فلقي وجه ربه على خير ما يلقاه عباده الصالحون، وندعو الله ان يسكنه فردوس الجنان، ويعوض المسلمين عنه خيرا ويبارك لهم فيما ترك من علم مكتوب او مسجل صوتياً، وإن كان ما تركه الشيخ من مؤلفات قليلاً بالنسبة لعلمه لانشغاله بالدعوة اكثر من انشغاله بالتأليف.
* للتواصل ص ب 45209 الرياض 11512 الفاكس 4012691
|
|
|
|
|