| الثقافية
مما ذكر في الأثر قولهم: لو دامت لغيرك لما آلت إليك وقيل أيضاً دوام الحال من المحال .
فتلك صفة ملازمة لحياة الإنسان منذ بدء الخليقة، فحياة الانسان دائمة التقلب، فتارة تنمو وتزدهر، ويخيم عليها تارة أخرى ظل كثيف من التأخر والدوار والاضمحلال، وهي دول بين الأمم والشعوب يتوارثونها خلفاً عن سلف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فعلم الانسان انه لا خلود له فيها وان الفناء مدركه لا محالة، فحرص على تسجيل معارفه وتجاربه، وتحقيقها لهذا الهدف، فقد اهتدى الى اتخاذ سبل متعددة وهو ما يعرف الآن بالذاكرة الخارجية ، كما هو معلوم ان ذاكرة الانسان الداخلية أي ذاكرته الطبيعية مقدرتها على استيعاب المعلومات وحفظها محدودة، وبالاضافة إلى ذلك يعتريها الضعف والنسيان في أحايين كثيرة، وفطن الإنسان إلى ذلك منذ وقت مبكر فزاده ذلك قناعة بأهمية الذاكرة الخارجية، وفي وقتنا الحاضر كشفت البحوث الأثرية صوراً ورسومات على جدران الكهوف في مختلف بقاع العالم، فاستطاع العلماء بواسطتها سبر غور التاريخ السحيق لحياة الإنسان وتصور مختلف الانماط الحياتية التي كان يمارسها من صيد وزراعة وحروب.
وبمرور الزمن تطورت أساليب ووسائل تسجيل المعلومات، فقرأنا في كتب التاريخ عن المسلات التي كانت تنحت عليها انجازات القادة والملوك، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: المسلة الشهيرة التي كتبت عليها قوانين حمورابي في بلاد ما بين النهرين, أعقب ذلك استخذام الألواح الطينية كوسيلة مستحدثة لهذه الغاية، فيسر ذلك عملية نقل المعلومات من مكان لآخر.
وبمضي الوقت تجمعت لدى الانسان الكثير منها فدفعه حرصه عليها إلى التفكير بصورة جادة لإيجاد المكان المناسب لحفظها وهو ما عرف فيما بعد بالمكتبة، فالمكتبة كانت وما تزال المكان الآمن والمناسب لحفظ التراث الإنساني بشتى صوره واشكاله ومجالاته كدليل قاطع على أهمية الذاكرة الخارجية للانسان وحفظ هذا التراث المعرفي جنبه تكرار تجارب أسلافه فبدأ تجاربه من حيث انتهى الآخرون، وقديماً قالت العرب: من جرب المجرب حلت به الندمة .
وفي عالم اليوم نجد أن اهتمام الانسان بوسائل حفظ واسترجاع المعلومات بلغ شأناً بعيداً من التطور، ويعتقد العلماء ان حياة الانسان مرت بأربع مراحل اساسية: فأولاها حياة العصور الحجرية، وثانيتها: حياة الاستقرار التي عرف فيها الزراعة، وثالثتها: عصر الصناعة التي انتقل فيها من استخدام الدواب كوسائل للنقل والمواصلات إلى استخدام سبل المواصلات السريعة كالسيارات والسفن والطائرات.
وأهم تلك المراحل هي المرحلة الرابعة والمتمثلة في عصرنا الحاضر، عصر ثورة المعلومات وهو عصر تطورت فيه وسائل الاتصالات فطويت المسافات وأصبح العالم قرية كونية، وقد وصلت أساليب الاهتمام بمصادر المعلومات جمعاً وتحليلاً وحفظاً مداها، كما تطورت الوسائل المستخدمة لحفظها تطوراً سريعاً ومذهلاً يتناسب تناسباً طردياً مع حجم المعلومات المتفاقم, فأصبح عالم اليوم عالماً معلوماتياً لا مكان فيه لمن يتردد في اللحاق بركبه.
ومواكبة سير هذا الركب الحضاري اقتضت الاهتمام بالمعلومات، وحتم ذلك بدوره العناية بالمكتبات فتنوعت تخصصاتها وتعددت أسماؤها فعرفنا المكتبة العامة والمكتبة المدرسية والمكتبة الجامعية والمكتبة الوطنية والمكتبة الدينية والمكتبة الصوتية إلى غير ذلك من الأسماء التي لا يتسع المجال لذكرها, وقد دأبت الجمعية العربية للثقافة والفنون على بث الثقافة تحت شعار الثقافة للجميع حيث اعلنت عن بدء المرحلة الثانية لقوافلها الثقافية المتمثلة في مشروع المكتبات السيارة والستارة كأداة مهمة من أدوات بث الثقافة، تنتهز هذه الساعة الطيبة لتدرج ضمن مواد باكورة انتاجها موضوعاً عن المكتبات السيارة.
فهذا النوع من المكتبات له أسماء متعددة رغم وحدة الهدف والغاية، وبما أن الحاجة أم الاختراع فالانسان دفعه حرصه على نشر الثقافة إلى ابتكار هذا النوع من المكتبات التي تسعى إلى القراء على عكس ما جرت عليها العادة في سعي القراء إلى المكتبات، وهذا تمخض عن ضرورة مراعاة ظروف المواطنين الذين تحول أوضاعهم المعيشية دون الانخراط في منظومة المجتمع الحضري الذي تتوفر فيه الخدمات المكتبية، وتحقيقاً لرغبات هؤلاء للنهل من عيون المعرفة نشأت فكرتها ووجدت طريقها إلى التنفيذ كأسلوب حديث ومتطور من أساليب محاربة الأمية والجهل بنشر الثقافة والعلم والمعرفة على أوسع نطاق, فهي سميت بالسيارة لأنها تشد الرحال وتسير إلى حيث يوجد القراء، وهي مكتبات متنقلة لأنها تتنقل بين مواقع المكتبات المركزية وبين فروعها التي تنتشر في المناطق البعيدة عنها، وهي جوالة لأنها تجول في البراري والارياف وتجوب الآفاق بحثاً عن طلاب المعرفة حيثما كانوا.
وتطور وسائل نقل تلك المكتبات كان رهيناً بتطور وسائل النقل والمواصلات, فبدأت مسيرتها باستخدام الدواب وكانت الكتب تنقل في صناديق صغيرة تتناسب ومقدرة الدواب للحمل، اما الآن يسر لها تطور المواصلات باستخدام السيارات وهي دون شك أسرع، وتساعد على نقل كم أكبر من الكتب وتوفر السكن الآمن للقائم بأمرها بدلاً من الخيم التي كانت تستخدم في الماضي, وفكرتها بسيطة لأنها عبارة عن شاحنات كبيرة أشبه ما تكون بالحاويات ولكنها مزورة بالرفوف التي تساعدها على انجاز مهمتها من تنظيم وترتيب للكتب وفق تقسيماتها المعرفية.
ومن أهدافها توزيع ونشر أوعية المعلومات كالكتب والوثائق والأشرطة من المكتبات المركزية الى جميع المناطق المحيطة بها, وذلك لتوثيق الصلة بين المواطنين وتلك المكتبات لتنمية وتطوير وعيهم وحثهم على حب القراءة باعتبارها السبيل الوحيد لاكتساب المعرفة، وهي تهدف أيضاً إلى سد الفراغ الناشئ من عدم توفر المكتبات المدرسية في المناطق النائية، هذا بالاضافة إلى الحرص على اطلاع القراء على المستجدات الثقافية أولاً بأول.
فالصراع والتنافس بين المجتمعات الحضرية والبدوية قديم قدم تلك المجتمعات وكل بما لديه فرحون، ونستشف آثار ذلك الصراع مما سبق أن جال بخاطر شاعرنا العربي وهو يخاطب محبوبته حيث قال:
بدوت وأهلي حاضرون لأنني أرى
ان داراً لست من أهلها قفر |
فالشاعر عانت نفسه الحضر على ما فيه من زخرف ومتع الحياة، وتاقت نفسه إلى البادية شوقاً وتلهفاً للقاء المحبوبة, فإن كانت هذه المحبوبة بدوية النشأة وتتلثم بالخمار وتتدثر بالعباءة فمحبوبتنا خمارها الأدب وحضرية النشأة وخمارها الأدب ودثارها العلم والمعرفة وهي تتحرق للقيا أحبائها من الشباب ألا وهي الثقافة وما أجملها من محبوبة!! فهي عروس نزفها إلى شبابنا في البوادي والأرياف في أبها حللها وكامل زينتها ليلامس حبها شغاف قلوبهم ليعشقوا القراءة لتصبح سبيلاً للنهل من معين المعرفة والعلم فهنيئاً لهم بها وهنيئاً لها بهم.
|
|
|
|
|