| مقـالات
تقول العامة في معرض التهديد والتخويف: (ورّيه العين الحمراء)، فكأنما العيون ذات ألوان، ولتلك الألوان دلالات وإيحاءات خاصة، وإذا كان الأمر كذلك فإن الحمرة في العين قد تكون في الإنسان صفة خلقية لازمة، وقد تكون صفة عارضة تزول بزوال سببها، فأما الملازمة فمثل ماجاء في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه كان أدعج العينين، طويل أهدابهما، أحمر المآقي (الفصول في سيرة الرسول لابن كثير ص 292 بتحقيقنا) وهي عند العرب صفة اكتمال في صاحبها، وأنشدوا في حمرة عين المرأة مثل:
ولا عيب فيها غيرُ شُكلة عينها
كذاك عتاق الطير شُكلٌ عيونُها |
(الشُكلة بضم الشين: حمرة في بياض العين)، والشاعر هنا أكدّ المدح بما يشبه الذم، وهذا من الأساليب التي ترتقي بالتعبير الأدبي، وترفع من شأنه، وبخاصة إذا جاء عفو الخاطر، غير متكلّف, وقال شاعر آخر في الشُكلة أيضاً:
وشُكلة عين لو حُبيتُ ببعضها
لكنت مكان العين مرأىً ومَسمعا |
قالوا: والعين هنا: الشمس، ومن العيون الحمر عين الأسد، وذلك مما يسهل على الشعراء والناثرين الربط بين حمرة العين والشجاعة، قال محمد بن ذؤيب العُمَاني (الميم مخفّفة) مُسبغاً على ممدوحه بعض صفات الأسد:
أجرأ من ذي لِبدةٍ مهماس
غَضَنفَرٍ، مُضبَّرٍ، رَهّاس
منّاعِ أخياسٍ إلى أخياس
كأنما عيناه في مِراس
شعاعُ مقباس إلى مقباس
(الهماس: الشديد الغمز بضرسه، المضٌبّر: الموثق الخَلق، الرَّهّاس: الذي يطأ الأرض وطئاً شديدا, الأخياس: جمع خيس بالكسر وهو الأجمة يكون فيها الأسد، في مِراس: اي في اثناء ممارسته للصيد, المقباس: شعلة النار تقتبس).
وقال أبو قُردُودة في عمرو بن عمّار الطائي، أحد ندماء النعمان، وكان أبوقُردودة نهاه عن منادمته النعمان حتى لايتعرض لبطشه، فلم يصغ إلى نهيه، ووقع ماكان يخشاه هذا الشاعر فقال يرثي صاحبه:
إني نَهيتُ ابن عمّار، وقلتُ له:
لا تأمنَن أحمر العينين والشَّعرَه
إن الملوك متى تنزِل بساحتهم
تَطِر بنارك من نيرانهم شرَره
يا جَفنةً كإزاء الحوض قد هُدِمت
ومنطقاً مثل وشي اليمنة الحبَرَه |
وكان النعمان أحمر العينين والجلد والشعر، وكان شديد العربدة، يعدو على ندمائه ويقتلهم، والجفنة هنا: السيد المِطعام، سمته العرب بذلك لكونه يضع الجفان، ويطعم الناس فيها، وإزاء الحوض: مصبّ الدلوفيه, وقال أحدهم في حمرة عين الأفعى:
لو لا الهراوةُ والكِفّاتُ أوردني
حوضَ المنيّة قتّالٌ لمن علِقا
أصمَ مُنهرِتُ الشدقين، مُلتبِدٌ
لم يُغذَ إلا المنايا من لدُن خُلِقا
كأن عينيه مسماران من ذهبٍ
جلاهما مِدوس التَّألاق فأتلقا |
(الكِفّات: جمع كِفّة بالكسر وهي من آلات الصيد, مُنهرِت الشدقين: واسعهما، يقال هرَتَ الشيءَ يَهرِته، إذا شقه ليوسعه، وهَرَتَ شدقَة: جذبه نحو الأذن, كان عينيه مسماران: ذكر الدُّميري أن عين الحية لا تدور في رأسها، بل كأنها مسمارٌ مضروب في رأسها, المِدوس: بكسر الميم، هي خشبة يشدُّ عليها مسنٌ، يدوس بها الصَّيقلُ السيف حتى يجلوه، التَّألاق، على وزن تًفعال، كتَذكار: من قولهم: أَلِقَ الشيء، إذا لمع).
واما الحُمرة العارضة المفارقة، والتي سببها طارىء مثلها، كعين الغضبان، وعين السكران، وعين الرَّمِد، وعين الكلب، فإنهم وصفوها بالقدر الذي تؤدي به وظيفتها في العبارة، وذلك كقول أبي حيّة مادحاً:
غضابٌ يثيرون الذُّحول، عيونُهم
كجمر الغضَا ذكّيتُه فتوقّدا |
فهي عيون محمّرة من شدة الغضب, (والذُّحول، جمع ذَحل، وهو الثار, ذكّيته: من قولهم" ذكَّى النارَ، اذا القى عليها ما تذكُو به وتزيد اشتعالا), ومن هنا جاء قولهم: (أراهُ العين الحمراء) مناسباً للتعبير عن الشدة وإخافة الآخر، وجاء أيضا قوله: (جاء فلان والشرر يتطاير من عينيه، أي غاضباً, وقال أحد الشعراء يصف رجلا شجاعا، أو في وصف قنفذ:
ومُدجّج يسعى بشِكّته
محمرّةٍ عيناه كالكلب |
(الشِّكّة: السلاح، والمقصود هنا: ما على القنفذ من شوك، والتشبيه بعيني الكلب في الاحمرار).
وقال ابن ميادة في حمرة العين في الحرب والغضب:
وعند الفَراريّ العراقيّ عارضٌ
كأن عيون القوم في نبضة الجمرِ |
وقال المرَّار:
حَنِقٌٌ قد وقّدت عيناه لي
مثل ما وقّدَ عينيه الَنَمِر |
فالحمرة على هذا النحو، ذات صلة بتجاوز الحدّ، ومعبرة عن الصولة والهيبة، ولهذا نجد الشاعر أحمد شوقي، يجعل الحرية حمراء، ولا تتحقق إلا بالقوة، وذلك عن طريق الأيدي المضرجة بالدماء، يقول شوقي:
وللحرية الحمراء بابٌ
بكل يد مضرّجة يُدَقُّ |
والحمرة في الجمال دليل أصالة وفي الملبس والحلي دليل غنى وسيادة، يقول المتنبي:
من الجآ ذرُ في زيِّ الأعاريب
حُمر الحلَى والمطايا والجلابيب |
وجعل العرب تورُّدَ الخدود واحمرارها كناية عن الخجل، وجعلوا من لايفرق بين حمرتين في عداد الاغبياء فقالوا: فلان لايفرق بين التمرة والجمرة، ولأمر ما اتفق العالم على جعل اللون الأحمر مانعا للدخول وموقفا للسير.
|
|
|
|
|