| الثقافية
دُعينا ذات مرة، جميعنا، عموم أهل القرية الشمالية البائسة إلى حفلة خارج إطار إدراكنا,, هي دعوة ملحة لأن نشاهد أمراً خارجاً عن مألوف حياتنا هذا المساء.
ضجت في ذواتنا وعلى غير العادة أضواء الترقب والحدس مفتتة بعض العتمات التي تلفنا، ومحدثة في عباءة الليل ثقوباً جديدة,, كُنا قبل هذا النبأ نتوه في استكانتنا في أعطافها.
ينتصب أمامنا في ظلمة هذا المساء لوح معدني أبيض صقيل؛ نميز بريقه في العتمة التي ألفنا بها الفاقة وأكل الخبز المنقوع بمرقة الخضار، والتدثر ببعض الأحلام والأحزان والنوم باكراً.
اجتمع الرجال، وقلة من الأطفال الذين فروا من إسار أمهاتهم,, انتظمنا جميعاً في الباحة الواسعة قرب بركة الماء الوحيدة,, تلك التي تمدنا بالحياة والبقاء مع من حولنا في هذه الأودية، والمفازات,,ندهش لفرط هلع بعضنا من هذا المارد الذي يعدنا ببعض خفاياه المبيتة, نشعر ببعض الأمان لحظة أن تتسرب إلى أنوفنا رائحة الطين حول البركة النازة بالماء البارد، والمكشوفة تحت النجوم.
***
تعلقت أعيننا بفيض أضواء تنبعث من صندوق أسود صغير، مثبت على قوائم معدنية ثلاث، وحفيف بكرتين تتجاذبان الشريط بشكل متناغم يوحي للصامتين بأن هناك عدداً لا بأس به من أهل الخفاء يقومون بمهمة كهذه.
فالعاملون هنا يطفئون الأنوار الشحيحة حول هذا الحشد؛ لتتولد لدى بعضنا ظنون عصية تؤكد ان الخفاء هو المسؤول عن هذا الوجيب الخافت للبكرتين.
أحاديثنا امام هذا اللوح المتوامض هامسة جداً، إذا يحضر العقلاء ولحظة انهماكهم بالمتابعة والإصغاء أن ننبس بأي كلمة أو آهة أو دهشة أمام مشاهد أهلها شبه العراة؛ وهم ينهمكون في تصفيف اشجارهم، وتنضيد ثمار جنانهم الباسقة,, تلك التي لا تشبه على الإطلاق الأشجار البائسة في حقل أبي على وجه الخصوص,.
دأبهم كان مثار إعجاب المشاهدين لهذا اللوح الصقيل,, آخرون كانت أعينهم تتعلق بصقالة الأجساد اللامعة التي تظهر وتختفي بين فينة وأخرى,, صدرت من جوانح مجاوري وهو يافع يكبرني بعامين أنة لاعجة لحظة أن رأى امرأة تتدفق أنوثتها؛ تحاور صاحب مزرعة عجوزا يشير إلى غابة برتقال، وحقل كثيف من الليمون وسرب طويل من شجيرات العنب.
***
ضج بعضنا,, هنا من قال في هذه الظلمة العصية بصوت خافت أشبه بالغمغمة إنها بدعة مذهلة، آخرون أشد تطرفاً أشاعوا فيمن حولهم سراً بأنها سحر، أو عمل من أعمال الشيطان، قلة لم يستطيعوا البقاء أمام هذا المارد الصقيل فولوا هاربين إلى عتمات حقولهم,, خلفوا وراءهم في هذه الباحة رجالاً وأطفالاً قد يكونون مسحورين يتسمرون على الأرض المتربة، وتفيض أعينهم بالفضول، وقلوبهم بالتوق لأن تعاود المرأة ذات الثياب القصيرة الظهور من جديد.
***
بعد أن كفت البكرتان عن الحفيف الرتيب اختفى الضوء المتماوج وحل في الباحة الواسعة قرب الماء ستر الظلام المألوف,, ليتفرق الرجال في أرجاء القرية مذهولين,, منهم من شرب القوة بشراهة لفرط صداع داهمه، وآخرون قرؤوا القرآن لضيق أصابهم,, هناك من ارتدى (حجمه) وتعاويذه, والبعض منهم شرب الماء المنقوع بالطينة المباركة لهول ما رأى.
أدارت سينما الإرشاد الزراعي رؤوس أهلنا,, كادت ان تودي بما بقي لديهم من عقول,, تعلقت أفئدتنا بطيف معاودتها,, لعلنا ننعم من جديد بتأمل تلك المشاهد التي مزقت مألوف حياتنا هذا المساء.
الرياض 10/1/2001
|
|
|
|
|