| مقـالات
تحيط الرياض بمدينة الرياض في هذه الأيام وقد لبست ثوب الربيع الموشى بأزهار الحنوة الحمر، وأزهار الحوذان الصفر، وأزهار الأقحوان البيض، وقد تخللتها شجيرات الشيح والقيصوم، فحمل النسيم شذاها الى كل زائر، فان سرح الزائر الطرف في أنحاء الروض سره منظره وان استمع الى طيوره المغردة أسره هزجها، وان اتجه الى نسيمه غمره بطيب الرائحة، فهي روضة التنوع والامتداد، ما بين سدر منضود وعُشر متناوح وطلح قد تسامى في علو وشموخ، والروض بين تلك الأشجار يمتد ما امتد البصر، في اخضرار يضرب الى السواد، يعلوه كل لون يحمل الحسن، وينقل العجب الى الرائي، ووادي الطّوقي هو الآخر يباهي روضة خريم بحسنه، فهو جار منافس وند في البهاء والحسن، فقد ازدان ربيع روضه وعلت الخضرة أشجاره ودوحه، وجعدت الرياح غدرانه وروضة الخفس بساط أخضر يطرزها الخزامى في حافاتها، ويمتد النفل في سُرّتها ما بين رمال حمر وجبال مشمخرة يتوسطها ماء تصفق جنباته الرياح، وروضة التنهات تباهي روضة خريم في الحسن، فهي أيضا في حضن الدهناء، وتفتخر بتنوع أزهارها وسموق دوحها واندياح أرجائها، فهي رياض في روضة ان أردت شم الخزامى تراءى لك بأزهاره البنفسجية، وان سما طرفك الى الأقحوان بدا في بياضه المعهود، ولكنك في هذه الأيام تفتقد زهرة العرار، التي اشتهرت بها روضة التنهات فشجيراته لم تزل في طور بربضها، ولكن الخزامى والنفل يغنيان عنها في هذه الأيام حتى يحين وقت ازهاره بعد شهرين، وتمتد رياض الشّوكي مع امتداد الوادي، ما بين طلح في منعطفاته، وسدر قد كرع في غدرانه، وانواع النبات تطرزه من أعلاه الى التناهي والخوابي فإن نظرت الى الجبل سرك بخضرته وان سرت في ظلال الدوح أعجبتك أغصانه، وان اجتزت الدهناء الى جانبها الآخر وجدت قفا منقادا فهو دون الجبل وفوق الحزن، وهذا القف في هذه الايام يكوّن روضات، كأن القُف قد قطرها في قطار فكل واحدة تؤدي الى أخرى، فما أجمل نباتها، فأم قرين تتميز بسدرها والخمَّة تتباهى بحوذاتها ونفلها، ولكل روضة من رياض الصمان ما يميزها عن جارتها.
هذه الرياض المجاورة لمدينة الرياض، والقريبة منها، لم يمر بها الحسن ابن هانىء أبو نواس ولكنه في رحلة من رحلاته الى بلاد نجد، مر ببلاد فزارة في عالية نجد الشمالية، فوصف ربيعها في نثر تغمره الشاعرية فإن فقد الوزن والقافية فلم يفقد الشعور، وتدفق العاطفة، فأبو نواس اشتهر بشعره ولكنه يسطر نثر ليس ببعيد عن الشعر، يقول في وصفه لرياض غربي القصيم بلاد فزارة في زمنه : حججت مع الفضل بن الربيع، حتى اذا كنا ببلاد فزارة وذلك إبان الربيع نزلنا منزلا بإزاء ماء لتميم، ذا روض أريض ونبت غريض، تخضع لبهجته الزرابي المبثوثة، والنمارق المصفوفة، فقرت بنضرتها العيون، وارتاحت الى حسنها القلوب، وانفرجت لبهائها الصدور، فلم نلبث ان أقبلت السماء فانشق غمامها، وتدانى من الأرض ركامها، حتى اذا كانت كما قال اوس بن حجر حيث يقول:
دانٍ مسف فويق الأرض هَيد بُهُ
يكاد يدفعه من قام بالرّاح |
همت برذاذ، ثم بطش ثم برش، ثم بوابل، ثم اقلعت وقد غادرت الغدران مترعة تتدفّق، والقيعان تتألق، رياض مونقة، ونوافح من ريحها عبقة، فسرحت طرفى راتعا منها في أحسن منظر، ونشقت من رباها أطيب من المسك الأذخر هذا ما قاله شاعر العراق في زمنه بعد ان أعجبه ربيع نجد.
وأبو نواس ليس وحده في هذا الميدان، فكل من رأى رياض نجد في مثل هذه الأيام فان عواطفه تجيش بما حلا عن اللفظ، ما بين نثر وشعر، فمن ذا الذي لا تحرك عواطفه ابتسامة الأقوان في روض يمج بالنّدى، فقد قال بعضهم في تلك الابتسامة وأقحوان كثغور الحور وقال آخر وعلى التِّلاع من الأقاحي حلّة واذا تجاور الأقحوان والحنوة فرض الروض الاعجاب، كما في قول الشاعر تسابق فيه الأقحوان وحنوة وللاعراب نصيب من القول في ربيع نجد، قال أحدهم باكرنا وسمي، ثم خلفه مولي، فالأرض كأنها وشي منشور عليه لؤلؤ منثور وما قاله الأعرابي نعيش فيه هذه الأيام فقد باكرنا الوسمي ثم تبعه ولي فالحمد لله على ما نعم به.
د, عبدالعزيز بن محمد الفيصل
|
|
|
|
|