زحف على الشارع حتى تمزقت ثيابه البالية، لعبة جديدة قرر ان يمارسها منذ اللحظة التي اصبح فيها أضحوكة يتسلى بها الآخرون انهم لو يعودوا يجدون فرصة لهزلهم بعيدا عن جثته التي تنزاح بطريقة مضحكة في تكنيسها للشارع، تشق مسربا تعود الناس ان يروه في طريق الحمير على الاماكن الوعرة,.
هكذا وجد نفسه قبل عامين مرميا على قارعة الطريق بعيدا عن المدينة المتناهية في الفراغ ومجموعة كبيرة من الاصفار,, كأن حاله غير طبيعية عندما أفاق من قيلولة، أو اغماءه، أو تخدير، أو ضربة عنيفة على رأسه,, نظر حوله كانت الحماطات عارية من ارواقها,, تنفخ المغر اجوافها المخيفة,, والسكون التام يفكك اجزاء الخلاء الى أشلاء الرعب,.
مد بصره يتفحص انحدار المسافات,, التصقت بصدره كماشات الوهن,, كأنه لم يعد يعرف ما الحالة التي وصل اليها, متعبا، منهكا,, يتقيأ أمعاءه كلها.
انعجنت ثيابه بالعرق الحار، رغم برودة الهواء,, ربما بكى بما يكفي لنزف عروقه الحمراء من مسارب الدمع المتدفق على الصدر الخافق كمروحة كهربائية عتيقة,, الحالة ميئوس منها,.
حالته ام حالة الرجل الذي جاء يساعده قبل ان يحدث له ما حدث!! ضرب جبينه بيده المرتعشة ,, اين ذلك الرجل؟! اين تلك الفتاة الجميلة؟! امنية العاشق؟! ربما كانت حبيبته الهاربة,, تدافعوا وراءها ,, هجموا على جسدها الضئيل,, كانت امها بائسة لم تستطع الهرب!! ما الذي يحدث له؟! ضرب جبينه بيده المرتعشة!! فرك عينيه!! حلق في المسافات بحثا عن بقايا البشر الهاجمين على المخلوق الضئيل!!
كان الفراغ يقرع طبول الصمت في آنية الريح وبقايا الروائح المنبعثة من ثنايا الأشياء الرطبة,, حاول ان يرتفع على قدميه,, عجز عن تحريك اليسرى,, التفت الى بقايا ثيابه المدعوكة بالتراب!! ذاكرته وحيدة تتحرك في الاتجاهات كلها!!
كان صغيرا، تلهى كثيرا بزجاجات عطر الموتى,, الناس يتجمعون من كل الارجاء، يتناثرون كحبات الرمل، يجلسون في كل النواحي، ينتظرون نهاية تجهيز الجنازة ,, وهو ينتظر متى يفرغون من سكب الزجاجات على الميت، يلقونها على الارض، يندس باحثا عنها بعد ان يرحلوا,, هواية غريبة كانت تسكنه!! هناك في البيت القديم لا تتسرب نملة من بين اقدام الرجال الذين أحاطوا بالميت يغسلونه,, تتدافع الارجل خارجة بوهج الجنازة المحلاة بالرياحين والروائح الزكية (إنا لله وإنا إليه راجعون),.
كنملة خائفة ينظر الى الوجوه التي ترفع الجنازة على الاكتف، يشفق على زجاجات عطر الموتى من الارجل الثقيلة,, فتح احدهم زجاجة عطر صغيرة,, رشها على الكفن,, ثم القاها على الارض تحت رحمة الارجل المشدودة خوفا من تمايل النعش او سقوطه,, جازف بنفسه,, غاص اليها,, أمسكها,, دحرته الارجل هنا وهناك,, وأخيرا خرج بالزجاجة من غير غطاء!! كانت رائحتها زكية,, رغم أحزان الموتى التي تفوح مع رائحتها,.
يحملونهم الى هناك,, الى المكان البعيد,, حيث لا يعودون الى هنا بتاتا ,, يصعدون الى السماء,, السماء غائمة ,, والسكون خناجر في الروح الساكنة في قيود الجسد!! ماذا بامكانه ان يفعل غير ان ينظر الى بقايا الناس تنزاح خلف الجنازة,, أو تنزاح هاجمة على المخلوق الضئيل,.
كان صغيرا لا يذكر أشياء كثيرة، ربما هذه الذكرى الحية في حياته الاولى,, ما زالت تلاحقه بعد ان أوغل في السنين كيف يقص حكايته هذه؟ تخيل له ابنا صغيرا في سن السادسة، تدافع نحوه، احتضنه، تراجع,, لا يستطيع ان يخبره تلك الحكاية القديمة,, بل تلك الحكايات,,!! كان صغيرا لا يذكر أشياء كثيرة,, الوالد المريض, الخروف المريض,, انشطار رأسه عندما وقع عن السطح ,, النساء ومشاكلهن الكثيرة,, حزيران البائس!! أفكار متناثرة تجعله غير عابىء بالأشياء من حوله,.
هل بكى!! لقد مل اللعب بزجاجات عطر الموتى,, عاد الرجال,, شعر انه يوغل في الصحراء بعيدا بعيدا حتى التلاشي!! يبحث عن الميت في كل الاشياء من حوله,, ربما ينام في ذلك الركن,, سأل امه بعد يومين ان كان سيعود أبوه,, بكت أمه,, احتضنته لأول مرة!1 لماذا لا يذكر الآن، وهو جثة في العراء، غير زجاجات عطر الموتى!! ربما يشفق على نفسه كثيرا!! وربما ايضا تمنى لو كان ما يحدث له كابوسا في سرير نومه لا حقيقة!!
حسين المناصرة
|