رئيس التحرير : خالد بن حمد المالك

أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 9th January,2001 العدد:10330الطبعةالاولـي الثلاثاء 14 ,شوال 1421

الثقافية

طلل سنام الذي ذكرنا برائحة الهيل
طلق المرزوقي
الطريق استكان لعجلات سيارتي المتهالكة والرياض بعض تعب ألقيتها خلف ظهري وسنام وجع ما زال يسكن القلب.
السيارة تستحث الأفق ان يقترب محتضنا سنام.
مرافقي في السيارة اسمه عبود جاوز الخمسين فلوثت السنون لحيته بالبياض
كان كلما استبد به الألم دفن احزانه في خرائب سنام.
قال عبود: منذ متى لم تر سنام؟
قلت: منذ غادرتني الطفولة.
قال: ماذا بقي في الذاكرة؟
قلت: الزمن الجميل
فترة من السكوت مرت الصمت كان يفتك بأعصابي ويبعث الماضي حيا جاء من ركام الأيام الغابرة.
عبود ركل الصمت ببعض كلام وقال بلغة موجعة: يا سيدي الناس هربوا من سنام لصباحات مدن تغتسل بالصابون.
عبدالله,.
عبود قال كلاما كثيرا لم أفهم منه شيئا كان صوته يضيع في الفراغ وسنام فتاة ترقص بزيها البدوي في الذاكرة.
انتبهت لجملته الأخيرة حين قال: ثمة اشياء يملأنا الحزن عندما نفقدها.
السيارة ما زالت تلتهم الطريق بعجلاتها والقرية الحلم على مرمى نظر، والقلب اسلم النبض للركض الموجع.
***
وقفت السيارة فجأة أمام المزرعة والبيت الطيني, نزلنا بخطوات متعثرة ومرتبكة,.
دلفت الى المزرعة، كانت الأيام قد سلت حسامها على النخيل فذوت بداخلها الحياة، النخلة التي في الطرف الشرقي من الحوش والتي كنت أدفن تحتها قامتي اذا داهمني النعاس في الضحوات وكنت اخبىء فيها خصلات ليلى التي عشقت ذات مساء بعيد، كانت كلما قابلتني استلت من جدائلها شعيرات تدسها في يدي.
كانت هذه النخلة القريبة من القلب قد انكسرت الى نصفين نصفها الاعلى كان يتدلى دون ان يلامس الأرض, ضربت الهواء بقبضتي ووقفت برهة كنت أحاول ان اجعل قامتي منتصبة وان اوقف سيل الحزن الذي استبد بي.
التفت الى الجادة التي كانت تذهب باتجاه المسجد لم اجد أثرا لتلك الخطى المطمئنة التي اعرفها جيدا.
كانت السافية قد أهالت عليها التراب.
عدلت من وضع غترتي بعصبية واتجهت الى البئر المرصوفة بحجر ينم عن جهد رجال تفانوا تذكرت انها كانت تسقي المزارع المجاورة لنا عندما ينضب الماء هناك,, مددت رأسي ونظرت الى قعرها كانت البطحاء تجهش وكان الظمأ وحشا لا يرحم امتص رونق تلك البطحاء تسلل الخدر الى قدمي.
عبود كان يرمقني دون ان يتكلم.
خطوت باتجاه بيتنا الطيني,, اقتربت من الباب الخشبي العتيق كان مواربا اقتربت اكثر دفعته بيدي تمنع دفعته مرة اخرى بقوة انفتح محدثا صريرا كأنه مواء قطة.
* * *
كنت طفلا بدويا ضرجه الفرح ورحت أراقب الأتاريك التي علقت بعناية على أعمدة نصبت على عجل في زوايا الحوش.
كانت الأتاريك توزع النور على التخوم وتدلق في أعين الرجال بعض ألق,, فناجيل القهوة تزرع اللذة في الأفواه,, ورائحة الهيل تغزو الأنوف والفرح كان يفترش كل الوجوه.
أحدهم اطلق لبندقيته العنان لكي تشق جوف الليل وتستمطر الفرح.
آخر صاح بصوت خشن الملعبة.
تقاطر الرجال على ساحة الرقص,, كونوا صفين وتركوا بينهم مساحة تليق بشاعر الحفل,.
أخذ بعضهم يجر بعض لكي يسدوا الفرج بينهم وأسلموا أيديهم للتصفيق وافواههم للغناء محاولين جر الشاعر الى ساحة الرقص.
قام الشاعر كان بدينا كرشه تتدلى الى الأسفل تقدم، كان يمشي بطريقة فيها كثير من الزهو في يده خيزرانة ذكرتني بعصا مدير المدرسة الذي جلدني بها ذات صباح بارد حتى انبجس الدم من كفي وانهمل ماء العين لاني نسيت مطلع قصيدة للمتنبي.
جدتي تقول: ان الشعراء يحملون الخيزران ليجلدون بها الجن لكي تمنحهم الشعر.
الشاعر راح يسكب القصيد في آذان الحضور الذين بدأت تتلبسهم حمى الرقص, الهواء منح الثياب فرصة للرقص ايضا.
زغاريد النساء تأتي من البعيد لابد ان حمى الرقص سكنت اوصالهن ايضا.
رحت اعبر عن الفرح الذي سكنني بطريقتي واسلمت جسدي الصغير لموسيقى المكان تقدمت الى ساحة الرقص ركلت الأرض برجلي الغضة صفقت حتى احمرت يدي اخذت أدور فيدور المكان في عيني الأرض ما زالت تئن تحت رحمة قدمي وانا ما زلت اواصل ركلها بقدمي.
* * *
لكزني عبود بيده في خاصرتي التفت اليه كان المكان شاحبا والموت يعربد في ارجاء المزرعة المتهالكة والأيام عبثت بطفولتي والم يجثم على الصدر يكاد يقتلني وكان شيء لم انتبه له من قبل جدار الحوش انهدم جزء منه من الجهة الخلفية للبيت فأصبح ترابا وكانت بعض اعواد الجريد نافرة من تحت التراب معلنة احتجاجها على هذا المصير.
اتكأت على عبود صاحب القامة السامقة اغالب الدمع واخذ يربت بيده على جسدي المنهك قربت فمي من اذنه وقلت: نعم عبود ثمة اشياء اذا فقدناها يملأنا الحزن.

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved