| مقـالات
حديثي عن قصيدة النثر مرافعة ضد ظاهرة قولية فسقت عن أمر الحد والشرط والجنس والنوع، مستجيبة لهاجس القضاء على فوارق الأنواع الأدبية منغمسة إلى الأذقان في محاكاة الغالب مؤشرة بالدونية خادعة بالمماثلة،وهي بشكلها المتداول: إبداعاً وتنظيراً ودراسة مواطأة خارجة على ضوابط الفن، وبخاصة الضابط العروضي للشعر، وهوالذي يوفر أدنى حد للتفريق بين الشعر والنثر العربيين، وهي بهذا الخروج تجذر إشكالية الأجناس الأدبية واللغة الشعرية والإيقاع الصوتي, فرضها الضعف والإدعاء والنفرة من التراث والتعالق مع الآخر وسهولة المرتقى, واقترافها لم يكن الخطيئة الأولى، ولن يكون الأخير، ولو وثقنا من أنه لن تقترف خطيئة إلا تلك لقبلناها على ما هي عليه، وأمرنا إلى الله،ولكننا في كل يوم نفاجأ بالمقترفات، حتى لقد أتخمت تلك الظواهر الطارئة من الغرب مشاهدنا المستباحة، وشايعها البعض بفوائض المعية والإمعية، ولأنها لا تعدو العودة بالشعر إلى النثر فإنها لا تحتمل كل هذا الركام من القول، ومع كل هذه الضآلة فقد رصدت: تاريخا وفنا ودراسة، عبر كتب مترجمة وأخرى مؤلفة، تعتمد التنظير تارة والتطبيق أخرى، منها ما هوقائم، ومنها ما هو في عداد المرحلة التاريخية، وهي بمجموعها تشكل طوفاناً فوضوياً من اللغط الفارغ, ولم نعد بحاجة إلى تكرار ما هو معروف بالضرورة, ومن ثم فلن أطيل الحديث عنها من خلال أبعادها: التاريخية والفنية إلا بقدر يسير،ولن أذيل بحثي بالمراجع والهوامش والإحالات، إذ لا يعنيني تقصي المقولات المؤيدة وما يقابلها، كما أنني لن أجيب بالتفصيل على التساؤلات المعتادة:
متى نشأت (قصيدة النثر)؟
وأين نشأت؟
وكيف نشأت؟
وعلى يد من نشأت؟
ولماذا نشأت؟
وما شكلها؟ وما لونها؟ إذ لم تعد كبقرة بني إسرائيل، إنها كلام منثور أو نثر مشعور, والمخدوعون بها أضلهم احتفاء المتسرعين برموزها مثلما أضل السامري بني إسرائيل، وتهويل أمرها لم يعد مجدياً بعد انجلاء الغبار، وتطلعنا إلى إيقاف التهافت على المتهافت.
وفي سبيل التوطئة لن نتقصى تطور (القصيدة العربية) من السجع إلى الرجز، ومنه إلى المقطعات، فالقصيدة على يد المهلهل، مروراً بالموشحات، والرباعيات، والثنائيات، والتشطير، والتصريع، ومجمع البحور، ومصيراً إلى شعر التفعيلة، وسوف لا يمتد بنا الحديث إلى ركام الجدل بين نازك والنويهي وأنيس وتناوش بعضهم مع أودنيس والماغوط والصائغ وعقل والحاج والحاوي وأبي ديب، كما لن نوفض إلى الشعر الحر والمرسل والمطلق عند سائر الكتبة والمتشاعرين لنصل إلى درك القرار، عندما ظهرت (قصيدة النثر) بكل تسيبها وتخشبها عند الحداثيين، وبكل تسمياتها: (النثر الشعري) و (الشعر المنثور) و (الشعر المنسرح) و(النثر المشعور) و (النثر الفني المركز) و (النثيرة) و(الشعرنة) و (الشعرية).
كما لن أتحدث عن أساطين التقليد الشكلي الذين يسمون أنفسهم بالمجددين: من شعراء كانت لهم قدم صدق في الشعر العربي، ثم نكصوا على أعقابهم، وعطلوا قدراتهم، ومن دهماء ليسوا من الشعر في شيء، وجدوها فرصة ليكونوا بين عشية وضحاها من الفحول، ومن نقاد شايعوا تلك الظواهر بشرط أو بدون شرط، وآخرين وقفوا ضدها أو تحفظوا عليها, ولن أسوق بعض ما ساقه الأنصار من حيثيات ومسوغات، وما ساقه الخصوم من مثبطات ونصوص مضحكة مبكية.
ولن أقف طويلاً عند التغامض والاستحالة وتفاهة القضايا والإيغال في الأسطرة الوثنية والشيوع اللغوي وقرب المأخذ وعامية التركيب، فبعض ذلك مستفيض ومشترك بين (النثيرة) و(التفعيلية) و (العمودية)، ثم إن الحوار الجاد الإيجابي المدعوم بالوثائق والنصوص والمعزز بالمرجعيات لا يكون في الغالب إلا مع من تعتقد مشروعية قضيته, وهل نثر النظم وادعاء الشعرية بهذه السهولة قضية؟ وما أريد تقريره : أن هذه الظاهرة ليست شعراً, ولك بعد ذلك أن تسميها ما شئت، فلا اعتراض عندي على أي تسمية ما دامت من الكلام، إن هي إلا قول له وعليه، وإن هي حين تتخطى السردية إلى الشعرية إلا فتنة فرقت بين الأخ وأخيه، وضربت الفن الشعري في الصميم، وخلطت بين الشاعر والمتشاعر، وليس من مصلحة المشاهد الأدبي ممارسة التزييف والتزوير، على أن في النثر روائع تفوق الشعر، وفي الأدب أمراء بيان يتطامن أمامهم الشعراء، وأين الأدعياء من الرافعي والزيات وأرسلان وطه حسين، ولا يضير القطعة الفنية ألا تكون شعراً, والله قال عن رسوله صلى الله عليه وسلم : (وما علّمناه الشعر وما ينبغي له), وهو القائل: (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش), وماذا عليهم لو أطلقوا عليها (النثيرة) كالمقالة، والخاطرة والمثل، إذ لا اعتراض على التسمية التي لا توهم بغير الحق، ومن قلل من شأن النثر على حساب الشعر فقد وهم، ومن سمى النثر شعراً فقد وهم أيضاً, والخلاف ليس في مشروعية القول على شاكلتها وإنما هو في تسمية ذلك القول شعراً, والخروج على الشرط الفني المميز للشعر عن النثر حمل النقاد المظاهرين لها على افتعال مصطلحات عائمة، كما ظهرت كتب عن (الشعرية) و (اللغة العليا) و(بنية اللغة الشعرية) و(الشعرنة) وكل هذه الاحترازات لم تحل الإشكال، ولما تزل الظواهر تتساقط في المشهد الأدبي كورق الخريف مصفرة يابسة تذروها الرياح، وعلى القارئ النظر المتقصي لما كتبه (جون كوين) عن لغة الشعر في جزءيه، و (قضايا الشعرية) لياكبسون، و(الشعرية) لتودورف، وما يقال عربياً في ذلك استلاب واضح من هذا وذاك, فقد ألف أبو ديب (في الشعرية)، وأدونيس (سياسة الشعر)، وحسن ناظم (مفاهيم الشعرية)، ومحمد اليوسفي (في بنية الشعر العربي المعاصر)، وعبدالكريم حسن (لغة الشعر في زهرة الكيمياء)، ولكن الجميع لم يحرروا قضاياهم.
وحين طبق الناقد الفرنسي (فرديناند) نظرية التطور الداروينية على الأجناس الأدبية، وجدها البائسون ذريعة لجعل النثر شعراً، وجعل السجع فالرجز فالمقطعات فالقصيد ثم التوشيح والرباعيات والتفعيلي والنثري تطوراً طبيعياً للإبداع القولي، ولو أخذنا بمبدأ التطور الدارويني لعكسنا الدورة بحيث تحول الإنسان إلى قرد وانعكست النظرية من التطور إلى الإنحدار.
وهكذا جاءت بعض الظواهر (كالعامية) و (النثرية) و(التغامض المفتعل) والإغراق الأسطوري الوثني والخرافة والتقنع البعيد التصور متجهة نحو الأسفل، بحيث لا تملك أدنى حد من المشروعية, إنها استجابة بلهاء المكيدة سعت لإجهاض الكلمة الطيبة المؤثرة، وإذا كان من الخطأ الدخول في حوار غير متكافئ، فإن من الخطأ أيضا السكوت عن الحق، والله يقول: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينّنه للناس ولا تكتموه .
ومما يعمق الخطيئة ويدين المنافحين عن (قصيدة النثر) التفاني في إدانة (الشعر العربي) والنيل الوقح من الشعراء بأعيانهم ووصفهم بأقذع الأوصاف، وذلك سعي دنيء مدان لضرب الشعر العربي وإسقاط رموزه وتخلية المشهد منه للهذرمة المنثورة والرواية الماجنة بكل ما تحمله من وضر الجنس وجماليات القبح وتدنيس المقدس, والمتشايلون مع تلك الظواهر ممن يلوون ألسنتهم، يتخذون ما يفيض به المشهد النقدي من حجج واهية دولة بينهم، ولكيلا يخسروا الرهان تراهم يتشايلون ويتنافخون، ويستشهدون بالغلبة ويعولون على الاستفاضة والوجود، ويستسلمون للواقع ليكتسب الشرعية، ويتملقون المبتدئين بالتغرير الزائف، والإعجاب الكاذب، لتكثير سوادهم وكسب أصواتهم، وما علموا ان أكثر من في المشهد الثقافي لا يفقهون أو لا يريدون أن يفقهوا، والمؤلم أنهم يراهنون على قضايا ليست على شيء من الحق، ثم يجدون من يصغي إليهم، ويمكِّن لهم من الحضور، ويختصر الحركة الأدبية والفكرية فيهم، ويجعل منهم نجوماً، ويصدقهم بدعوى المشاريع والثلاثيات، والعامة لا تقرأ، وإنما تركن إلى جاهزية الأقوال وفورية الأحكام، على حد: (قد قيل ما قيل) والوجود المستفيض لأي ظاهرة ليس حجة، ولو كان الوجود حجة، لما أرسلت الرسل، ولما نهض المصلحون، ولما تمرد المغلوبون، فمجرد الوجود والاستفاضة لا يمنحان المشروعية، ولا يحولان دون المواجهة، ولا يتردد أمامهما إلا الجبناء والمواطنون على الخطايا، وفي الحديث: (يأتي النبي ومعه الرجل ويأتي النبي ومعه الرجلان ويأتي النبي وليس معه أحد) والمذعنون طوعاً أو كرهاً لهذه الظاهرة أولغيرها من الظواهر النكرات المستفيضة وغير المستقرة تراهم في تحول مستمر وتخلٍّ متواصل، كل يوم لهم قضية، وكل ساعة مع مذهب، تواجههم قضايا ينقض بعضها بعضا، وهم بالتجريب التخريبي قد فوتوا على راهنهم الأدبي إمكانية التأصيل والتأسيس والتدبر, ولك في سبيل الاطمئنان أن تجيل نظرك في المعاش القائم من ظواهر وملل ونحل وفي المتجاوز الممات، لترى أنك أمام مناهج ومذاهب ومدارس وآليات، يأكل بعضها بعضاً، ويقوم بعضها على أنقاض بعض، لا همَّ لذويها إلا الإحياء والإماتة، منذ أن أمات نيتشه (الإله)، وأمات البنيويون (الإنسان)، وأمات المتذيلون (النقد الأدبي) و(النحو العربي) ، يتم ذلك والمشهد مليء بالفارغين الذين لا يحسنون إلا المكاء والتصدية لمن يمر بهم على جيف الكلاب، ومع المواطأة تستفحل الفوضوية، وتنعدم المبادرة والابتدار والاستبداد، والعاجز من لا يستبد, وأي استبداد ورموز المشهد يقولون ما يود الغرب قوله، فمن أنشأ الحداثة؟ ومن ابتدع البنيوية؟ ومن طرح بالنقد الثقافي؟ ومن طلع بالقصيدة النثرية؟ ومن قال بالشعرية؟ أليست تلك بضاعة غربية أتينا بها من عندهم؟ ومن ثم أين المبادرات؟ وحين لا تكون مبادرات، فلماذا الادعاء والتورم؟, وإذ يكون الصراع أكسير الحياة وسبيل حيويتها، فإنه لا يجدي إلا من عند الذين استوعبوا تراثهم، وتضلعوا من ثقافتهم، وقرءوا الآخر دونما انبهار أو استسلام، وصنعوا مشاريعهم الثقافية وفق حاجة الأمة, ولك في سبيل الشماتة أو الاعتبار أن تتذكر سائر المذاهب السياسية والحزبية والفكرية والأدبية والنقدية وسائر الظواهر وممارسات التفجير وهتك المسكوت عنه والتحولات الشكلية والدلالية والتناحر التدميري القائم حول كل ذلك مما أخرجنا من التاريخ، فالفعل الهمجي لا يكون حدثاً تاريخياً، وبهذا الاسترجاع والتذكر تتأكد الفوضى القائمة على أشدها، وكل الخائضين في ذلك ليس لديهم إلا رطانة معادة مكرورة يستشري فيها الادعاء والتعالم، وقد تجد بعض ذلك قائما في شخص واحد جمع الله فيه سره، فهو كالمرآة في كف الأشل، تراه كالقرد يقفز من شاخص لآخر، وأنت تسمع وتقرأ الكثير من تلك الأشياء، يتبناها كتبة لهم عرض وطول، (جسم البغال وأحلام العصافير)، وهم في النهاية عالة على مترجمات صحفية، يلهثون وراءها في قول غير منتظم، وعرض غير رصين، وقفز غير محكم، والقليل المفيد ضائع في صخب السجال, والثابت بالتجربة والدليل أن جميع مشاهد الحياة لا تصلح بالفوضى، ولا يقوم أمرها بالهدم, والغلبة والاستفاضة لا يكفيان شاهداً على الحق وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ، وفي الوقت ذاته فإن الحياة لا تحلو إلا بالجدل الأحسن والاختلاف المعتبر، والآراء المتباينة، وتنوع المشارب، وتعدد الاهتمامات، في ظل ضوابط وحدود يعرفها العقلاء المتمكنون، ولكن أين المشهد الثقافي من النظام والجدل والتعددية الإيجابية؟ على أن الفن عامة في إطار التوافق أو الاختلاف يجب أن يكون استجابة لذائقة أمة، لها لغتها وفنها وطبيعتها، وليس شيء من ذلك يأتي افتراضاً ولا فرضاً، وما يصلح لأمة لا يصلح لأخرى، والضعف والتخلف العارضان لهذه الأمة وأشيائها لا يستدعيان تكسير الثوابت،ولا يشرعان اللحاق بالآخر دون وعي للطبيعة القائمة واستحضار للمطالب الملحة، وإنما يستدعيان مراجعة النفس ونقد الذات والتبصر بالأمر وتفويضه إلى العلماء من ذوي الخبرة والتخصص، والإسلام ندب من لا يعلمون بسؤال أهل الذكر.
وفي وجوه القول والإبداع لا بد من التأصيل المعرفي واستصحاب الشرط الفني المحقق لتمايز الأجناس الأدبية, وليس ذلك من استعارة الأصولية في الأدب، وليس هو من التعصب للتجنيس ورفض وحدة الفن، وإنما هو تحرير للهوية وحماية للخصوصية ومحافظة على الندية والتكافؤ, وضوابط الفن وقيوده المرفوضة من التبعيين لا تثبطان إلا الأدعياء، وفي هذا السياق لا بد من الأنموذج، والأنموذج المنشود يتراءاه الشاعر المبتدئ، كي يمارس معه الاحتذاء أو التحدي, إنه الرقم القياسي، يظل رقماً قياسياً حتى يأتي من يحطمه بالأفضل، يكون الرقم القياسي من الأعمال الإبداعية، ويكون من الاناسي المبدعين، ويبقى مضماراً يلز فيه الشعراء والروائيون والقصاص والمسرحيون وسائر المبدعين، حتى إذا ضاق عن لززهم بحثوا عن مضامير أخرى، وهكذا يكون التجديد.
فهل يستطيع أناسي (القصيدة النثرية) تحطيم أناسي القصائد العمودية أو التفعيلية على الأقل؟ وهل تستطيع (القصيدة النثرية) تحطيم القصائد العمودية بوصف عيونها أنموذجاً للاحتذاء والاحتكام والتحدي؟ لقد خبت نار المذاهب التي أوقدها الغربيون استجابة لحاجاتهم القائمة، وتلقينا هوامدها ننفخ في رمادها لكي نوقدها من جديد، ولكن ليس فيها جذوة ولا قبس, وعلى الذين يجادلون عن (القصيدة النثرية) أن يأتوا ببرهان توثيقي، ليضعوا النص المنثور إزاء النص الشعري، مثلما تتنافس ملكات الجمال، ومثلما تنتصب اللوحات الفنية بين يدي النقاد الموازنين أو المقارنين, إننا في معمعة المنازلات لا نتجاوز مرحلة التهريج، وكأننا الشاهد الذي لم ير ولم يسمع, لقد قامت معارك فكرية، وشب صراع أدبي خلف لنا رؤى ومعارف، وكان المصطرعون أهلا لذلك، وإن اختلفنا معهم في الوجهة, فأين نقاد الراهن من طه حسين والرافعي وزكي مبارك ومندور والعقاد وعبود في الثلاثينات، وأين المتذيلون للحداثة من أساطينها الذين أضلهم الله على علم في الثمانينات؟ فهل أحد يبلغ شأو أدونيس أو عصفور أو أبي ديب؟ وأين روائيو (الثلاثينات) المتهتكون المنحرفون العابثون من نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي ومحمد عبدالحليم عبدالله؟ وأين شعراء النثر المنفطئ من السياب والبياتي والجواهري والقباني وأمل دنقل ودرويش؟ وأين مثقفو السماع من أركون وحنفي والجابري ومحمود؟ أولئك أساطين لم يوفق بعضهم للحق، ولكنهم ملكوا ناصية الفن والفكر والنقد, وتلافيا للتلاسن المسف حول (قصيدة النثر) سنحاول التركيز على الشكل العروضي دون البناءاللغوي، ودون البعد الدلالي، أملا في تحديد مجال التنازع، ولو امتد الحديث إلى كل إشكالياتها لبعدت علينا الشقة، وتشعبت بنا السبل, واعتراضنا على تلك الظاهرة لا يمس المضمون ولا يمتد إلى اللغة، إذ (النثرية) قول له وعليه، والاعتراض على الشكل ليس غير، والوقوف في وجه (النثرية) وقوف فني وحسب، لا يطال عقيدة المبدع والناقد، ولا أخلاقياتهما, نسوق هذه التحفظات، ونكررها، لكيلا نوصف بالمزايدة الرخيصة التي اعتاد المريبون التعويل عليها زورا وبهتانا، والاختلاف حول الشكل اختلاف حول فساد الذوائق.
والتجديد والتحول مشروعان، بل لا قيمة للحياة بدونهما، ولكن التجديد لا يكون بالمحاكاة، ولا يكون بدون ضوابط، ولا يكون إلى الأدنى، والتحول لا يطال الثوابت، والذين لا يجيدون إلا التقليد لا يسألون عن مشروعية الوافد وأهليته، وإنما يفضلون الدخول في عباءات الآخرين في ذلة ومهانة وإلغاء للذات، يدافعون عن الرؤى والآراء والمذاهب دون معرفة بجذورها الفكرية، ويروجون بضاعة الآخر دون معرفة بحقائقها، ويقرءون المتداول عن بعض الظواهر الممسوخة ولا يقرءونها، ومن ثم لا يخرجون عن القول المعاد، يجترونه ببلاهة وغفلة معتقة، فالفحولة والأنوثة اللغوية لمز للغة القرآن عند أبي زيد، والبنيوية ذات جذور فلسفية مادية عند الشكلانيين، وقل مثل ذلك إزاء أي ظاهرة يتلقاها البائسون، والذين يقرءون ما كتب عن (قصيدة النثر) وما ترجم عنها يندهشون، لا لأن ما قيل مدهش، وإنما هو لقلة بضاعتهم وجدة معرفتهم، ومن ثم يحسون بالدونية، ولو أنهم قرءوا (قصيدة النثر) بثقة وعزة لكان لهم موقف آخر، ولكنهم أضاعوا الجهد والمال والوقت في قيل وقال، وما استطاع أحد منهم تحرير شيء من الظواهر، لأنهم يتلقونها في تخبط وتشتت واضطراب، حتى لقد ضاق النثريون من تجاوزات المتشاعرين، وعلى المتقصي قراءة التحفظات والتراجعات التي صار إليها المتسرعون من الشعراء والمهتاجون من النقاد بعد أن غمرهم المتشاعرون، وضاعوا في زحمة الأدعياء، والنقد المعول عليه غامر بآليات وفكر ومفاهيم غامضة وغير محددة فوقع في إشكالية الاغتراب وأصبح إشكالية في ذاته.
وبصيص التفاؤل في الطائفة المنصورة من النقاد الذين ألحوا في التساؤل، وتمنعوا بعض التمنع، لكن البعض من أولئك لم يشأ المجاهرة بالحق خوفا أو مداهنة أو قلة بضاعة, والأقلون هم الغرباء الذين صدعوا بالحق وبه يعدلون، نفضوا رداء التبعية، وقالوا لإخوانهم الذين زينوا لهم التقاط نفاية الحضارة المادية : لا تتخذوا بطانة من دونكم , ولا تركنوا إلى الذين ظلموا .
ولما لم يستحب المستغربون، خاض الناصحون غمار المشهد النقدي مدججين بسلاح المعرفة، غير هيابين ولا وجلين ولا مداهنين، يتذوقون الأشياء بألسنتهم فيفرقون بين الحلو والمر، ويحددون آراءهم بمحض اختيارهم، يقولون كلمتهم بشجاعة، ولا يخشون بقناعاتهم لوم اللائمين ولا شماتة الشامتين ولا سخرية الساخرين، لا يهابون الغربة ولا يميلون إلى الاغتراب، يتمتعون بثقة التمكن، ويتكئون على دقة الملاحظة ودقيق الرصد وتقصي المستجد، يستمعون إلى كلام الآخر ويأخذون بأحسنه، يرفضون تأهيل الغرباء وتغريب الآهلين، يبتدرون القضايا، ويَفرون كما يفري غيرهم, ويستلون من ركام الطوارئ ما هم بحاجة إليه، ولا يدفعون ثمنه من ثوابتهم، لا يذوبون ولا ينغلقون بل يتخذون بين ذلك قواما, والمشهد الثقافي بحاجة إلى هذه النوعية، لإقالة العثرة، وتخليص المشهد من التبعية الغربية المقيتة، وهي تبعية مستشرية، بحيث لا نسمع ولا نرى إلا ما يقوله اساطين الفكر والأدب في الغرب، وما يتلقفه المتصعلكون من أغيلمة الصحافة والمتصابون من أشيمطي الاستغراب، يتباهون بتداول المصطلحات المعربة وغير المعربة، دونما قدرة على الفهم الصحيح فضلاً عن كيفية الاستعمال، ولما يحقق أحد من أولئك أدنى حد من النجاح منذ الطهطاوي إلى أبي زيد؟ وماذا جنت الأمة من دعاة التنوير؟ وهل في وضع الأمة اليوم ما يسر؟
|
|
|
|
|