|
| مقـالات
في الحفل الافتتاحي للمهرجان الوطني العاشر للتراث والثقافة بالجنادرية، الذي أقيم يوم الأربعاء 21/10/1415ه الموافق 22/3/1995م، تحت رعاية سمو ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله شرفت بإلقاء القصيدة الترحيبية، وكانت بعنوان: خيمة الحب ، وقلت في آخرها:
|
جنادريّةُ,,! هاتِ اللحن أعزفهُ
جنادريّاً، فيسهو الناي والوترُ
شوقاً إليك,, إلى تاريخ أمّتنا
يشدّني، فيموج السمع والبصرُ
بوركتِ يا رمز آمالٍ نعيش لها
ويبتنيها على آفاقنا القدرُ |
والقصيدة على كل حال منشورة في ديواني: تأويل ما حدث , فالجنادرية تمتلك لحناً مميزاً، ولأجوائها نكهة خاصة، وطابع متفرد، يمثّل الامس الرائع، ويرعى الحاضر المدهش، ويبشّر بالمستقبل المزدان بكل ما فيها من عراقة وثراء وطموح، تحوّل كل ذلك فيها إلى لحن ساحر وغناء شجيّ أخاذ، حتى ليكاد الناي أن ينكر نفسه، والوترُ أن يتطامن لجمال هذا اللحن الجنادريّ الواله، الذي طالما نزعتنا له الأشواق، وجذبتنا لروائعه المدركة بالسمع والبصر والفؤاد، فالجنادرية لحن، والجنادرية أغان وأناشيد، والجنادرية تاريخ عابق بالأمجاد،والجنادرية رمز لنهضتنا نعيش بها ولها، وآمال يبتنيها القدر علىآفاقنا، فتفيض رخاءً وعطاءً وأحلاماً ملونة بزخم من الأحاسيس والمشاعر المتدفقة باليمن والبركات والاقبال، فالجنادرية على النحو الذي كرّسته في النفوس اعوامُها السابقة، وممارساتُها السامقة، تخطت الزمان والمكان، وتحولت إلى محطة حضارية، تشع بعطاءاتها نوعاً وكماً، وغدت موسماً زاخراً بالفكر والثقافة، تلتقي فيه جميع مناطق مملكتنا الحبيبة بما تقدمه من فنون شعبية مختلفة بدءاً بالمسرحية الغنائية (الأوبريت) التي نشهدها على أرضية الحفل الافتتاحي، ونتفاعل معها، وننفعل بها، ونلتحم بكلماتها ونمتزج, بأنغامها ورقصاتها، ونستمتع جميعا قبل ذلك وبعده بسباق الهجن، متذكرين خلال ذلك قوله تعالى (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) الغاشية/17 وقوله تعالى أيضا (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون) النحل/8، مستحضرين تعلّق العربي بمطيته، ومعاشرته لها، ثم وصفها شعراً ونثرا، وتغنيه بما في الإبل من قوة وأيدٍ، وما تكون عليه من سرعة وجمال خَلقٍ، ومن منا لايعرف معلقة طرفة بن العبد:
|
لخولةَ أطلالٌ ببرقة ثهمدِ
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ |
حيث احتل فيها وصفُ الناقة اثنين وعشرين بيتا، ومن ذلك قول حسان بن ثابت الأنصاري في قصيدته التي مطلعها:
|
لكِ الخيرُ غُضِّي اللومَ عني،فإنني
أحبُّ من الأخلاق ما كان أجملا |
حيث يقول:
|
وإني إذا ما الهمُّ ضافَ قريتُهُ
زَماعاً، ومرقال العشيّات، عَهيَلا
ململَمةٌ، خطَّارةً، لو حملتُها
على السيف، لم تَعدِل عن السيفِ معدِلا
اذا انبعثت من مَبركٍ غادرت به
توائمَ أمثال الزَّبائب ذُبَّلا
فإن بركت خوَّت على ثَفِناتها
كأن على حيزومها حَرفَ أعبَلا
مروَّعة، لو خلفَها صرَّ جندبٌ
رأيت لها من روعة القلب أفكَلَا |
(الزَّماع: المضاء في الأمر, مرقال، العشيات: الناقة السريعة, العَيهل: الناقة النجيبة، الشديدة، الململَمة: المجموع بعضها إلى بعض, الخطّارة: التي تخطر بذنَبها في سيرها نشاطاً, خوّت: تجافت, ثفناتها: ما يقع على الأرض من أعضائها حين بروكها، حيزومها: صدرها, الأعبل: الغليظ, الأفكل: الرعدة, وكلّنا يعرف أن الاجداد سموا الجمل سفينة الصحرا، وعرفوا النجيب من الإبل والبليد، والأصيل والهجين، واطلقوا على بعضها اسماء تنبىء بأصالتها وتميزها.
والجنادرية حين تولي سباق الجمال الاهتمام اللائق به، إنما تحيي فينا الشعور بالأصالة، وتبعث فينا روح التعلق بالجذور، مسهمة بذلك في تأطير الهوية العربية الأصيلة, أما عن القرية الشعبية أو التراثية، فحدّث ولا حرج، فهي بما تحويه كتاب تاريخي نادر، بل هي موسوعة شاملة، مصوّرة شاخصة، بعيدة الأثر في نفوس زوارها، وكل مبسط أو دكان يحكي تاريخاً طويلا نابضا بالحياة، ويؤكد الصلة بين الماضي والحاضر، ويصل الأحفاد بالأجداد، وتقف بيوت الأقاليم والمناطق شامخة هنا وهناك، تحمل خصوصياتها والأنماط الرفيعة من تاريخها، لتتبلور بعد ذلك جميعها في كلِّ رائع لايفوته القيام بدوره في إبداء جماليات الخاص داخل إطار جماليات العام، فهذا بيت المدينة المنورة، وذاك بيت عسير، وآخر لمنطقة مكة المكرمة، الى آخر تلكم البيوت الجميلة والمثيرة, فإذا انتقلنا إلى مجال الأنشطة الثقافية التي تقدمها الجنادرية، وجدنا ما يستحق ان نقف عنده إكباراً وتقديرا للجهود المبذولة في دأب وصمت وتواضع، فهذا نشاط مسرحي تسهم به الرئاسة العامة لرعاية الشباب ضمن أنشطة الجنادرية، وتنهض فيه الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بعبء كبير وجهد مشكور، وهذه أماسٍ شعرية تضم شعراء من داخل البلاد وخارجها من شعراء العروبة، وهذه محاضرات وندوات ذات موضوع محدد من الموضوعات المعاصرة، مما يهم المسلمين ويشغل الفكر العربي، كالعلاقة الثقافية بين العرب والغرب أو الشرق، وكالحوار بين الحضارات، وكالأدب في المملكة العربية السعودية, ثم هاهنا ايضاً تكريم لشاعر أو كاتب من ابناء المملكة العربية السعودية، ممن قدّموا جهدهم بسخاء في مجال العلم والفكر والثقافة, كالشعراء أحمد العقيلي وحسين عرب، والناثرين الكبار كالمعلمي، وهكذا يتأكد لنا في كل موسم جنادري، ان الحرس الوطني بتبنيه هذا المشروع إنما يسهم في رسم الهوية المتميزة لهذا البلد الأصيل، ولا يسعنا إلا أن نشكر من احسن إلينا، فشكراً ثم شكراً للحرس الوطني، لكل صغير وكبير فيه.
|
|
|
|
|
