| الثقافية
ربما تكون العودة الى الحديث عن التراث وعلاقته بالثقافة العربية المعاصرة بعامة, وبالشعر بخاصة، ذات إغراء وجاذبية، ولأكثر من سبب ربما كان الأهم فيها ان هذه العلاقة ما تزال سؤالا حائرا ومعلقا في أجواء هذه الثقافة، ولكثرة وتضارب كثير من الآراء التي تسعى الى تحديد نوعية هذه العلاقة أو ما ينبغي أن تكون عليه.
للباكين على الماضي والمطالبين بعودته أو العودة اليه واتخاذه قاعدة ونبراسا باعتبار ان ليس في الامكان أفضل مما كان أسبابهم، والتي من أهمها احساسهم بأنهم في حاضر مأزوم ومحيّر وخوف شديد من المستقبل، واحساسهم بأنهم دون مقومات ومواقف واقعية حاضرة معاصرة ودون رؤى وطموحات مستقبلية، أو أنهم قد وصلوا الى أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه في سلالم الحضارة وأنه يجب عليهم النزول في هذه السلالم أو الوقوف والتشبث بالدرجة التي وصلوا اليها قبل السقوط المنتظر والذي لا يلوح إلا في آفاقهم وبفعل رؤاهم المصابة بقصر النظر، مع أنهم في عودتهم هذه غالباً ما يعودون الى بعض هوامش هذا التراث وبعض سخافاته التي لم يعد يقبلها علم حديث ولا عقل ولا منطق ولا ذوق، ولا يستطيعون لنفس الأسباب ولأسباب أخرى تمنعهم من مقاربة الحاضر والمستقبل مقاربة بعض المكونات الرائعة لهذا التراث أو مقاربة التراث ككل ودون انتقائية نفعية بما هو جملة المنجزات التاريخية الانسانية في قطاعات الحياة المختلفة ، والى أن أصبح بعضهم نخبة ثقافية تروّج لها وسائل الاعلام فيما هي تنتمي حسيا الى الحاضر وتعيشه وتستمتع به وتنتمي في الآن نفسه فكريا ومعنويا, الى الماضي، ودون أن تكون حلقة وصل بينهما، بل جسر قطع معكوس ومشوّش المرايا، وبحيث يشارك في تأصيل القطيعة مع جوهر التراث وروح الأمة التي انجبته ويخلق حالة زيف وعمى ثقافي ويمارس بعث التشاؤم في كل من يحاول مقاربة هذا المشهد المتناقض الغريب، وبحيث أصبح التراث وبسببهم عبئا على الحاضر وعائقا أمام المستقبل؛ والى أن أصبح العيش على هامش حركة التاريخ والثقافة والحضارة الانسانية وجدليات تطورها وكذلك الاستغراق في الماضي ومحاولات العودة اليه خوفا من الحاضر وعجزا أمام المستقبل سمة وشعارا لهذه النخبة الثقافية المزورة والمهزومة الى درجة الاحساس بالانحطاط الحضاري الشديد الذي يستدعي في نظرهم الحاجة الى استعادة أمجاد الماضي لتعويض ما تحس به هذه النخبة من عجز ونقص وخوف وخور، والى درجة أن أصبح انتاجهم الثقافي إن صح تسمية ما ينتجونه ثقافة هو اعادة أشكال ومضامين وأفكار مختارات من أكثر وأسوأ نماذج التراث تقليدية وسطحية وتفاهة، ودون أن يطمحوا ولو مجرد طموح الى أن يقرءوه من جديد أو يقاربوه مقاربة تليق به أو تخضعه للنقد والمساءلة والمراجعة، أو يبحثوا عن اشراقاته وتجلياته الابداعية،أو أن يضيفوا إليه ما يساعد على تحويله الى جزء ايجابي ومؤثر في ثقافة الأمة وهويتها ومعينا لها في حركتها وتحقيق ذاتها وصيرورتها المستمرة.
وللذين يعيشون فقط على المستقبل وأحلامه وغيبياته أسبابهم أيضا، في الهروب من الماضي والحاضر معا، وفي الغياب التام عن أي فاعلية أو معايشة للواقع وجدلياته، وبمعنى أنهم يعيشون بيننا حسيا ويعيشون في المستقبل فكريا ومعنويا، وكأنهم في حالة تخدير وغياب وعي تام وهروب من أي مواجهة، حين يقتاتون على ما يعدون به أنفسهم في مستقبل قد يأتي أو لا يأتي، وبحيث يمكن النظر اليهم وهم يعيشون ويكتبون ويقرءون لأنفسهم الخاصة فقط، وفي ابراجهم العاجية وخلواتهم، وهم في انتظار ما ينتظر وما لا ينتظر ومالا يمكن أن ينتظر إلا في عقول المجانين أو أوهام المخدوعين.
وهناك أسباب أخرى، لدى من يعرف الماضي جيدا ويستفيد منه، وقد استوعبه بسلبياته وايجابياته وتمثله ووظف أفضل ما فيه وتحاشى تكرار أخطائه، فيما هو يعيش حاضره حسيا وفكريا ومعنويا، ويجادل واقعه وما يحيط به لحظة بلحظة، يمد به الجسور الواثقة الى مستقبل ينظر اليه نظرة ليست تشاؤمية ولا تفاؤلية بقدر ما هي استشرافية رؤيوية واثقة مبنيّة على أسس من الوعي والمعرفة والتخطيط السليم.
في هذه الفئات الثلاث، نجد معظم متعاطي الثقافة العربية في القرن العشرين بعامة ومتعاطي الشعر منهم بخاصة، ودون أن نسترسل في تصنيف ووضع كل فئة في الخانة المناسبة لها، إذ إن المواقف الثلاثة واضحة: بين شعراء تقليديين ماضويين، وذاتيين غيبيين مستقبليين، وواقعيين جدد لم ينسوا أنهم امتداد للماضي وطريق الى المستقبل؛ والفرق بين أصحاب المواقف الثلاثة ليس في النتاج والانجاز الثقافي والابداعي لكل منهم فقط، بل يتجاوز ذلك الى وعي كل منهم بالتراث ونظرته إليه وعلاقته معه وطريقة مقاربته له؛ بل وفي نظرتهم الى الانسان والتزامهم بقضاياه وانقاذه وتحريره من قيود ماضيه، ومن تراثه القديم الذي يجب السعي الى تخليصه من كل ما علق به من أوهام وأمراض.
|
|
|
|
|