| مقـالات
كان ليو تولستوي يؤمن بمبادئ ومضامين فكرية ودينية راسخة حاول استخدام طرق فنية مختلفة ومتعددة الأشكال لعرض بناءه القصصي والروائي العظيم، وسعى دوماً إلى أن يكون ذلك البناء متماسكاً وذا وقع إنساني محض.
وُلد الروائي الروسي تولستوي عام 1828م في أملاك أسرته المترامية في قلب روسيا الأوروبية,, كان مجد عائلته الأرستقراطية يحيطه تماماً، ذهب إلى أرقى المدارس، وتزوج وأنجب العديد من الأبناء وفقط احدى بناته كانت لصيقة به وتؤمن بكل ما يقوم ويصدر عنه, زوجته قوية الشخصية ولكنها سقطت تصرخ تحت معول أفكاره الغريبة الداعية إلى مشاركة الآخرين بكل ما يملك, وضع كتابا لمنهجي الحساب والقراءة انتشر في كل انحاء روسيا، وجلس يعلم الفلاحين والفقراء الذين يشتغلون في أراضيه الواسعة مبادئ القراءة والكتابة، ثم أخذ يقسم أملاكه الزراعية إلى قطع يمنحها لأبناء الريف حباً في مساعدتهم, زوجته تعارض وتولول وهي ترى أملاك الأسرة تتفتت وأبناءها يتضورون جوعاً,, خلال كل ذلك كان تولستوي يقوم بجولات في العديد من مدن أوروبا الغربية، أعجبته جداً مظاهر الرقي والحضارة الجديدة، رغم أنه حينما عاد إلى روسيا لم يحبذ كثيرا تطبيق ذلك التحضر الغربي، في بلده ودعا إلى العودة للدين والتحفظ الاجتماعي, كان داعية لأفكار غير مسبوقة مثالية وعجائبية، ولم يختلط بالكثيرين من أدباء زمانه، فهو لا ينسجم مع أفكارهم الحداثية.
لم يكن تولستوي حتى ذلك الوقت مهتماً بالأدب والكتابة فقط، بل أصبح صاحب رسالة اجتماعية إنسانية، وعاش في شبه فاقة، وتضور أولاده جوعاً بكل معنى الكلمة، لقد وزع كل ما يملك وكان يمجد العمل البدوي، ويدعو إلى العمل والإنتاج ويتنبأ بأن روسيا سوف تقود العالم نحو الخلاص والرفاهية,, وظل يلقي المحاضرات ويتحدث أمام الجموع في الدين والمشكلات الاجتماعية، والفن.
وجعل قصره الفخم مفتوحاً أمام الفلاحين والريفيين يشاركونه وأولاده وزوجه الإقامة والسكن,, إنها المشاركة الفعلية,, كما يتصورها وساهم في فلاحة أرضه بيديه، هذا ما يحلم به من العمل الجماعي والحاجات المشتركة، لم يتراجع عن هوسه بهذه المثالية المفجعة لكل من حولة, خلال كل ذلك كتب عملين عظيمين خلداه حتى الآن، أولهما الحرب والسلام في سنة 1869م, وكانت الحرب الأهلية تنشب مخالبها في بلده الكبير، وثاني عمل هو آنا كارنينا عام 1877م, من خلالهما دعا إلى ضرورة أن يحب الناس بعضهم بعضا، وهاجم شرور المال, لقد سعى تولستوي إلى الوصول لجذور المشاكل الحيوية المهمة لعصره، وذلك كان عبر اكتشاف أسرار الطبيعة الإنسانية، والغوص في أعماق النفس وكشف مشاعرها المتداخلة.
وتطور الحدث في رواياته يشكل قمة التقنية الفنية، والقارئ لأعماله، لابد ان يلمس الترابط الجمالي المحسوب بدقة، إن الرواية لديه ليست مجرد سرد عابر، بل عمل شحنات سايكولوجية كبيرة، وكانت رواياته بشكل من الأشكال تنحو إلى التحول الظاهر نحو الديموقراطية والحرية في تصرفات أبطاله, في بداية القرن العشرين، آنا كارنينا توفر مفهوم الحب، الذي هو جوهر الحياة، وقمة الإبداع لدى تولستوي يتجسد من خلال قوله: مافائدة أن تكتب، وأن تصدر روايات عن كل ماضي الحياة من شرور وسعادة ، دون حب .
إن منهج الفكر الروائي عنده كان يستند بقوة إلى أحاسيس وتجدد روحي، يستمد حرارته من قوة الحب وصدق المشاعر، وعندما تقتل آنا كارنينا الارستقراطية الثرية زوجة الرجل النافذ والقائد العسكري الكبير، نفسها تحت عجلات القطار، كان ذلك بنظره عندما خوت روحها من حلاوة الحب,.
لقد فقدت حراسة ذلك التوهج الروحي، المانح للحياة وللرغبات، صدمتها حقائق الوجود الإنساني، من خيانة، وجبن، وعدم وفاء,, كانت التعاسة تسير ضمن تيار خفي يجتاح روحها، لأن المثل العليا كانت تمثل لديها قمة الانسجام مع النفس والآخرين، وحينما تحطم ذلك الجدار تحت معاول الحقائق، رمت بنفسها تحت عجلات التغير الذي يمثله القطار السائر دونما توقف، انها الحياة تتقدم وتمر بمحطات، ومتغيرات لابد لها من اضحيات حتى تصل الى منتهاها وموت الأميرة الجميلة لم يكن سوى قربان لها سيحدث في هيكلة الدولة نحو التغير الجذري، الذي لابد منه, كان تولستوي دون شك من اولئك الادباء الذين تفتحت مداركهم على واقع حضاري ملموس وقادم، كان يستشعر الهزة الحضارية والسياسية والاجتماعية التي سوف تغمر بلده، وأحس بضرورة اكتشاف الجديد وتجسيده من خلال روايات مذهلة يستخدم فيها قوة العقل في مشاهد مختلفة من فصول رواياته، يقول: خُلق العقل لكي يتخلص مما يقلقه فهل كان ذلك الكاتب يقع تحت قوة خفية جبارة غير مفهومة تدفعه دون إرادة للإبداع، تتسلط عليه قريحة لاتنضب، وكان يحاول ان يجسد فيما يكتب افاقا جديدة للحياة، كان يعتقد انه لايمكن العيش وسط المآسي والشقاء، كان يحس بحضور الحاكم العادل داخل نفسه، لذلك اشتد انتقاده لاسترخاء رأس المال، ان المجتمع أمامه يفقد روحه، ان فردية كل إنسان هي إدانة جماعية لأولئك اللامبالين وسبب احزان الآخرين، والإنسانية المشردة كانت تُدمي قلبه وربما كان يحمل تصوراً غير واضح للواقعية الأدبية، حيث ان الكلاسيكية تسيطر على قلمه، ثم الرومانسية التي كانت في أوج قوتها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لذلك جاءت رواياته تصور شخصيات عظيمة ونموذجية من أصول عريقة، ثرية وجميلة، مثالية في تفكيرها، البطلة رومانسية ولكن متمردة تعشق كل ماهو نقي وجديد,, الجمود يعذبها انها روح طاهرة مرفرفة، يملؤها الإشفاق على الذات,.
كان تولستوي يعبر بوضح عن طبيعة الشخصية التي تعيش في روايته، يكشف عن أعماقها، هو الذي يحدد خصائصها الفنية، إنه يصور الصفات النموذجية للعصر القادم الذي يستشرفه في داخل عقله,, النماذج التي اوجدها تولستوي العبقري، هي اجتماعية ونفسية في آن واحد, لقد وضع يده على الواقعية الديموقراطية للإنسان كاسلوب للاستقرار النفسي, كانت تقلقه مشكلة الحياة والسعادة، والنهاية الدراماتيكية للاحداث.
ان المجتمع الذي يعيشه يقع بين اسنان ماكينة تقطع اللحم الاجتماعي، قوة الظروف الغاشمة، ولم يكن بمقدوره ان ينجز ما انجزه من ابداع لولا هذه النهضة التي حققها القرن العشرون، والقوة الخارقة لوطنه، لقد تبلورت العديد من الاتجاهات الفكرية بفعل التطور الاجتماعي والسياسي، وعندما وصلت روسيا إلى القمر حدثت نقلة للمجتمع نحو واقع مغاير، لقد تنبأ تولستوي الحساس الشفوق لهذا العصر، فتح آفاقا واسعة لمجتمعه نحو مستقبل غريب ومدهش، وتوثقت صلتهم بالعالم الخارجي، الذي كان يتغير حولهم على نحو سريع والنشاط الواسع الذي قامت به بعض الفئات من خلال أدبياتهم التي تكشف أعماق المجتمع، وبالتالي ايجاد شيء جديد في الأدب.
لقد كان ذلك الأديب مظهرا بارزا من مظاهر الحياة الفكرية للوطن، وكان متطلعا إلى المستقبل بعيون واسعة، تستشرف كل الجوانب، ولكن هل كان حدسه صادقا,, هل فهم ما الذي سوف يحدث بعد تلك الطفرة العملاقة، والوحدة الحديدية، هل علم المفكر تولستوي ان التفكك نهاية قفزة غير طبيعية، وان الاشتراكية غير الموزونة سوف تكبو على وجهها، وسوف تجعل أبناء وطنه نهباً للضياع والحاجة, العمل الشراكي,, ضيع قيمة الفرد الانسانية كما أرادها الله,, الإنسان الفرد كما خلقه الله هو الاساس، وعندما يصلح بالتالي يصلح المجموع,, أما المسيرة الجماعية المتدافقة دون تخطيط,, فهي هشاشة الفوضى,, ويظل الأديب ذا نظرة مستقبلية قاصرة فهو إنسان في نهايته.
|
|
|
|
|