| مقـالات
حُسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب |
وكل ذي فطرة سوية وذوق لم تخربه البدع، يجد ما وجده شاعرنا من الحسن المميز في مجتمع البداوة وأهله، الذين لا يزالون يتشبثون بالأصالة ويحتمون بالقيم، أن يصيبهم الغزو الفكري الذي تشتد هجمته وتتزايد وطأته، كلما ارتفعت القيم المادية على حساب ما سواها.
وعذرية الجمال في البادية لاتنسحب على جمال بنت الصحراء فحسب، بل هي رمز لكل القيم الجميلة التي توارثها ساكن البادية والمتخلق بخلقها جيلا بعد جيل، وهم الأمناء الحقيقيون على تراث الامة وعنوان معدنها الأصيل,, وقاموسهم لا يزال يشتمل على مفردات غابت كثيراً عن مجتمع القرية والمدينة، منها ما اشتهر عن البدو من الفروسية والكرم والنجدة وشدة الحمية، وهي المواد التي يقوم عليها المنهج الأخلاقي (البدوي) سواء في بادية الرعي (الصحراء) أو في بادية الزراعة (القرية) لأنهم جميعا يحتكمون في الأساس الى قيم واحدة.
وقد حدّث الشيخ عبدالعزيز بن صالح يرحمه الله أنه بعد حرب العاشر من رمضان اصطحب أسرته من القاهرة براً الى قناة السويس ليروا على الطبيعة كيف تحطمت العوائق الهائلة وعلى رأسها خط بارليف والتي كانت بعض الأصوات (العربية) تُيَئس العرب بها من مجرد التفكير في حرب مع اسرائيل.
وفي ريف محافظة الشرقية شاهد الركب جني النخل على جانبي الطريق، وأهل المدينة كما يقول محدثنا لا يصبرون على هذا المنظر الأثير ، فنزل الشيخ من السيارة واقترب من صبية تقف أسفل النخلة وتستلم من عجوز تأبطتها (عذوق) البلح، وبلطف شديد سأل الشيخ الفتاة (الشرقاوية) أن تلتقط له بعض حبات (الرطب)، فما كادت تفعل حتى فاجأه شيخ تخطى السبعين قادماً تجاهه، مشرعاً فأسه، وأدرك ابن صالح أنه قد يهلك بسوء ظن حامل الفأس، فألهمه ربه ان يُنزل أسرته بسرعة من السيارة، فارتخت الفأس وارتفع سؤال حاد: من أنت؟! ولماذا تقف هنا؟! وحتى يزيل ما تبقى من لَبس في ذهن الفلاح العجوز، أفصح الشيخ له بأنه إمام وخطيب المسجد النبوي, و,,, ولم يكمل، فقد أسرع الرجل ينهال على رأسه ويديه تقبيلاً وهو يعتذر بكل ما أوتي واحتفى بالشيخ احتفاء كريماً.
وهكذا تعني البداوة في كل مكان الكرامة والشرف وكل الصفات النبيلة، فإذا ما أصبحت في مجتمع ما سبة على ألسنة أنصار المدنية بلا حدود يستهزئون بها من الأفاضل والفضليات فتلك انتكاسة أخلاقية نجمت عن (صغائر) استهان فيها البعض بالقيم، ومرت من تحت أنوفنا جميعاً بلا تدقيق وتجمعت تلك الصغائر ونمت حتى أصبحت (ظاهرة) فسد فيها الذوق الأخلاقي، ولا نقول تغيّرت فيها الجلود!!
وخلال كلمته في افتتاح مؤتمر وزراء الثقافة العرب في بيروت قبل عدة أشهر، نبّه الأمير خالد الفيصل الى أن أحدا لن يكون بمنأى عن لعبة خلط الأوراق، التي تتخذ من (العولمة) عنواناً لها, ونحن ندرك أن بلادنا قد نجحت في تقليص الأثر الناجم عن مخالطة الغير عبر طوفان القادمين للتنمية والمغادرين للسياحة و(غيرها)، لكن الخوف من لحظة تغفو فيها اليقظة عن تحقيق التوازن للمعادلة الصعبة بين الأخذ بكل ما لدى الغير من ماديات تنفعنا، وبين أن نحافظ على هويتنا، هذا الخوف يجعلنا ندعو الى صحوة وإفاقة على مستوى الأفراد والعمل بكل السبل على تكوين رأي عام يعيد الأمور الى نصابها الصحيح.
وبدلاً من ان ننادي بمقاطعة بضائعهم فنحرمهم وأنفسنا الفائدة المادية يجب أن ننادي بمقاطعة الغريب عن قيمنا في قاموسهم السلوكي، فذلك أدعى لتطهير الثوب الأبيض من البقع، وأدعى أن تعود إلينا قوانا المهدرة وهو ما يحتاج منّا الى صدق العزائم في العودة الى جلودنا وأصولنا والى أخلاق البداوة,, تلك القيمة المفترى عليها.
شاكر سليمان شكوري
|
|
|
|
|