أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 31th December,2000العدد:10321الطبعةالاولـيالأحد 5 ,شوال 1421

مقـالات

قراءة إدارية في سيرة الملك المؤسس
المبحث الأول: الملك القائد 1 - 5
أ,د, حسين بن محمد علي العلوي *
تقديم:
كثر أولئك الذين كتبوا عن عبقرية الملك عبدالعزيز، يرحمه الله, وأكثر منهم من تناول صفاته وشخصيته بالدراسة والتحليل, إلا أن القليل من الباحثين من جعل محور اهتمامه قدراته الإدارية والقيادية والتنظيمية الفذة, وحتى هؤلاء ، جاءت دراساتهم متأخرة إلا أنها كانت مفيدة لإكمال عناصر سيرته, ولعل الفضل في ذلك بعد الله يعود إلى تنظيم مؤتمر المملكة العربية السعودية في مائة عام , هذا المؤتمر العالمي الذي عقد في الرياض ولمدة خمسة أيام بدءاً من يوم السابع من شوال 1419ه، وشارك فيه أكثر من 400 باحث ومختص من داخل المملكة وخارجها، واحتوى على ثمانية عشر محوراً خصص الثاني منها لدراسة حياة الملك عبدالعزيز وعرض منهجه في الحكم والإدارة, أما الثالث فقد عني بدراسة جهود التوحيد والبناء ابتداء من استعادة الرياض في الخامس من شهر شوال عام 1319ه ، انطلاقاً إلى احتواء الأجزاء في كيان واحد، ثم البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وما تلاه من تطوير تمهيداً لبدء عهد التنمية, أما باقي المحاور فقد تناولت جهود أبنائه البررة من بعده في ترسيخ الوحدة الوطنية وبناء المؤسسات ووضع الأنظمة وتخطيط التنمية.
لقد كان هذا المؤتمر بحق باعثاً لهمم الباحثين والمفكرين، وحافزاً للدارسين والمؤرخين، لشحذ أقلامهم، وتوجيه اهتماماتهم لجمع مسيرة التأسيس ورصد التطور لحياة المجتمع السعودي وعرضه على مدى مائة عام 1319 1419ه ، تناولوها بحثا وتدقيقاً، كل من زاوية اختصاصه ودائرة اهتمامه او مجال خبرته وممارسته.
وإن كانت محاولات البحث في الأبعاد الإدارية لسيرة الملك المؤسس، يرحمه الله محدودة، أو جاءت عرضاً ضمن ثنايا الوقائع وإحداث تاريخ التأسيس والبناء إلا أنها كانت غنية وثرية بالفكر والتحليل، ويمكن استخلاص العديد من الدروس والعبر منها بل والمبادئ الإدارية التي لا تختلف كثيراً عما اصطلح عليه اليوم من مبادئ الإدارة الحديثة وعناصرها.
إن دراسة تاريخ الأمة هي دراسة لتاريخ رجالاتها من المؤسسين والبناة الذين كافحوا وساهموا بل وخاطروا بأرواحهم في سبيل نشر رسالة أو استعادة مجد, فكيف بنا ونحن أمام شخصية قيادية عظيمة كشخصية المؤسس الملك عبدالعزيز يرحمه الله؟
فحري بنا ونحن ننعم اليوم بثمار ما نجني من دوحة التنمية التي غرسها الملك المؤسس وصانها ورواها أبناؤه البررة من بعده بكل أمانة واخلاص أن نتساءل كيف استطاع رحمه الله لم شتات هذه الأصقاع المترامية الأطراف في كيان واحد، وفي زمن قياسي ؟ كيف تمكن من جمع أفئدة الناس من حوله وتأييدهم وتقديم الولاء الذاتي له؟
وكيف تمكن من التكيف مع عناصر البيئة الخارجية المحيطة والمتوثبة لأي فرصة لإجهاض كل محاولة توسع أو طموح؟ وكيف تمكن من القضاء على الفتن الداخلية ومحاولات التشرذم والهدم لإفشال جهود الأمن والتوحد والبناء؟ وكل ذلك في ظل شح الموارد ونقص الرجال وصعوبة الاتصال, وباختصار كيف كان أسلوبه في الإدارة؟
القائد الموقفي:
منذ نهاية الستينات الميلادية وحتى بداية التسعينات ظهرت في أدبيات الإدارة نظريةالإدارة الموقفية وانبثقت منها عدة نظريات من أهمها نظرية فيدلر fiedler للقيادة الموقفية وهي باختصار تقول بأن نمط القيادة الأمثل يحدده الموقف، متمثلاً في خصائص المجموعةالتابعة للقائد، وطبيعة العمل المراد إنجازه، وخصائص القائد نفسه, لذا فإن النمط الفعال هوالذي يتمكن من مزج هذه الأبعاد الثلاثة في نمط معين يتدرج بين التسلط والتسامح، أو بين المركزية والمشاركة، وبين الانفراد بالرأي والديمقراطية المتزنة في اتخاذ القرار.
وبتطبيق هذه النظرية على أسلوب الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، في الإدارة نجد أنها تنطبق تماماً على نمطه القيادي الذي ميز أسلوبه عبر مراحل التأسيس والبناء والتطور, ففي مراحل التأسيس الأولى كان أسلوبه، يرحمه الله، يعتمد على المركزية والحزم وسرعة القرار لاستعادة مجد الآباء والأجداد وفرض النظام وإشاعة هيبة الدولة وسيادتها، ومع بزوغ فجر الأمن والاستقرار وبدء مرحلة البناء والتطوير جاء أسلوبه متفقاً مع خصائص هذه المرحلة من حيث الدراسة والبحث والتشاور والتفويض.
يقول الدكتور عبدالعزيز الخويطر: عندما يفكر المرء في أسلوب الملك عبدالعزيز في الإدارة، فإنه يجد أن الزوايا التي يمكن أن يطرق منها الموضوع متعددة، ولهذا فهو يحتاج إلى أن يقرر من أي الزوايا يدخل إلى الموضوع ويحدد التقسيم الذي سوف يضعه لمنهجه في الحديث عن ذلك, وقد اختار الخويطر المنهج الموقفي وإن لم يسمه كذلك لتحليل أسلوب الملك عبدالعزيز في الإدارة، حيث أكد أن أسلوبه، يرحمه الله، كان التكيف مع الموقف, فقد كان أسلوبه في إدارة البادية يختلف عن أسلوبه في إدارة الحاضرة، وأسلوبه في أوقات الحرب يختلف عن أسلوبه في أوقات السلم، وأسلوبه في أول عهده يختلف عن أسلوبه بعد توحيد المملكة، كما إن أسلوبه في التعامل مع من يثق بهم يختلف عن أسلوبه بالنسبة لمن هم حديثو الولاء.
القائد التحويلي:
وبالإضافة إلى قدرته الفائقة في التكيف مع خصائص الموقف، كان يرحمه الله ، قائداً تحويلياً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني, فالمتأمل في سيرته ومنهجه القيادي يجد أن فكره وفعله من النمط التحويلي, إذ استطاع أن يحول الشتات والفرقة إلى وحدة واتحاد، وحول التقاتل والتناحر إلى قوة نظامية، وحول الجهل إلى معرفة وعلم، وحول الفوضى إلى ولاء والتزام، والعصيان إلى طاعة نابعة من الذات غير مفروضة، وحول الفقر إلى وفرة ورخاء، ونقل اقتصاد القرية إلى اقتصاد الدولة، والانغلاق إلى انفتاح, وكأنه يرحمه الله، قد استشرف العالمية قبل بزوغ شمسها بمائة عام.
صفاته القيادية:
سبقت الإشارة بأن الصفات القيادية هي إحدى الأبعاد المحددة لأسلوب القائد في الإدارة, ويبدو أن هذا الجانب من شخصية الملك عبدالعزيز حظي بالاهتمام الأكبر من الدراسة والتحليل من قبل الباحثين دون سواه، حتى أصبح من الصعب الفصل بين صفاته الشخصية، يرحمه الله، وأسلوبه في الإدارة, فقد جمع فضائل الشيم حتى لا يدري المتحدث عن شخصيته أي الجوانب يطرق ولا من أيها يغرف؟
أمن الورع والتقوى؟ أم من الزهد والتواضع؟ أم من الشجاعة والبطولة؟ أم من حبه لأمته وهيامه بشعبه؟ أم من حرصه على ما فيه النفع لصالح الشعب؟ أم من حب الناس له وإقبال قلوبهم إليه؟ أم من جميل أدبه وحسن بيانه ؟3 فقد كان الملك عبدالعزيز مالكاً جامعاً لكل هذه الخصال العامة بدون منافس.
أما سماته القيادية والإدارية فغنية عن الحصر إلا أنها تتمحور في قدراته وإمكاناته الفطرية من ذكاء، وفطنة، وقوة بديهة، وتلقائية، وخبرة، ورجاحة في الرأي، وقوة في الإقناع والتأثير، وبلاغة في الخطاب، وسلامة في القرار, فالملك عبدالعزيز يرحمه الله لم يتلق تعليماً نظامياً كما نعرفه اليوم ولم يلتحق بمدرسة عليا للإدارة ليتعلم فنون الإدارة الحديثة السائدة في عصره، ولكنه تتلمذ على يد والدهالإمام عبدالرحمن الفيصل آل سعود، وعكف على حفظ القرآن الكريم منذ نعومة أظفاره، وعايش قسوة الحياة وشظف العيش، فكانت الصحراء هي مدرسته ، ومجالس العلماء ورجال الفكر هي سلوته، فشب صلباً قوياً في بنيته وسلوكه لا يحدوه إلا هدف واحد هو استعادة مجد آبائه وأجداده، فكان له بتوفيق من الله ما سعى اليه.
إنها القيادة الفطرية النقية، ففي أعماقه، رحمه الله، تكمن شخصية قيادية فريدة في نوعها، متأصلة في جذورها، عميقة في مرتكزاتها، مميزة في أبعادها، وتلقائية في سلوكها وممارساتها, وبالفعل فقد مارس الملك عبدالعزيز الإدارة بمختلف عناصرها ووظائفها باقتدار فطري إلى جانب دراية وحنكة فائقة وحكمة بالغة، ونتيجة ما منحه الله من توفيق وذكاء ودهاء وما توافر له من خصائص قيادية وإدارية تمكن من توظيفها في اجتياز مرحلة التأسيس والتكوين التي تعد أهم مراحل عهد الدولة السعودية الثالثة وأدقها.
ولنا فيما يرويه بعض أبنائه البررة من خصائص وصفات تمثل في مجموعها تلك الشخصية القيادية خير شهادة ممن عاشوا بجواره فتطبعوا بطباعه ونهلوا من تجاربه وخبراته وتشبعوا بآرائه وأفكاره, فكان يرحمه الله أكثر من والد، وأكبر من معلم، بل كان مدرسة إدارية شاملة تتلمذ فيها أبناؤه ، بل كل من حظي بالقرب منه أو عمل في بلاطه من الأمراء والوزراء والمستشارين ورجال الدولة، وحتى صغار الموظفين.
فها هو جلالة الملك فيصل يرحمه الله يعدد مزايا والده الفريدة التي حققت له النجاح في مقال نشر في جريدة المصور المصرية في 9 يوليو عام 1948م حيث يقول:
ليس من اليسير أن اتحدث عن جلالة والدي كملك، لأن ذلك من حق التاريخ وحده وربما كان غيري أقدر مني على إنصاف رجل عظيم مثله، بنى ملكاً بعصاميته، وحفظ للعرب تراثاً مجيداً في البلاد المقدسة وأقام العدل والنظام في بقاع كانت تسودها الفوضى ويهددها الخوف في طرقها وأرجائها، وتتألف من مقاطعات وإمارات وقبائل شتى في مساحات واسعة, فمن أهم مزاياه رحمه الله:
1 قوة الإيمان: حيث يقول رحمه اللهما رأيته منذ نشأت قد ضعف إيمانه بالله، أو تخلى عن ثقته بالله، فقد صمم على الموت أو الفوز بالرياض حتى أعادها.
2 قوة الإرادة والشجاعة: وقد ظهرت هذه الميزة في إدارته للمعارك التي خاضها مع أعدائه خاصة في المواقف الصعبة عندما تخلى عنه أتباعه في لحظات التقهقر والانهزام.
3 حكمته وأناته في معالجته لأمور الدولة: فقد كان يتوخى حل المشاكل بالسلم أولا، كما أنه متسامح مع خصومه ولا يلجأ إلى الشدة حتى يستنفذ كل وسائل المرونة واللين.
4 حبه للانتفاع بالعلوم الحديثة: كان يرى أن نأخذ من المدنية أفضل مافيها ونترك مساوئها.
5 العدالة: فقد كان يجمع بين الرحمة والشدة واللين والحزم ولا يفرق بين أبنائه وأبناء شعبه فليس للعدالة عنده ميزانان.
أما خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز فقد أوجز خصائص والده في عبارة ضافية شاملة بأنه يرحمه الله لم يكن تاريخ توحيد وتأسيس كيان كبير فحسب، بل كان تاريخ عطاء وبناء وتنمية على أسس علمية ومنهجية وفنية، تؤمن بالعلم كما تؤمن بالإيمان، وتنطلق من الاهتمام بالانسان والعناية به باعتباره العمود الفقري للتنمية والعطاء.
أما سمو الامير سلطان بن عبدالعزيز، فقد أكد بأن للملك عبدالعزيز أسلوبه المتميز في الإدارة, فقد كان يعتمد على البساطة في الإجراءات الإدارية، والاستناد إلى مشاورة أهل الاختصاص، واختيار الرجل المناسب للقيام بالمهام الإدارية، والاستفادة من تجارب الآخرين ومن الأساليب العلمية الحديثة في الإدارة، إذ كان ينظر إلى الإدارة على أنها علم من العلوم الإنسانية التي تقبل التطور.
أما سمو الامير سلمان بن عبدالعزيز فقد حدد عدداً من الصفات القيادية التي تميز بها الملك المؤسس وهي الإيمان بالله، والعزم والإصرار على الهدف، والصبر على المكاره، والعدل المقرون بالرحمة، وتأليف القلبوب، واستثمار عقول الرجال الاستشارة ، وعدم البدء بالشر، والعفو عند المقدرة، وعدم الحقد، ومنح الخير للجميع، وتحويل الخصم إلى صديق، واللجوء إلى الله والخوف منه، والاستخارة والاستشارة.
أما في حالات الحرب، فقد تجلت فروسيته الفريدة التي اشتهر بها بين أقرانه فكانت مواهب خصومه وعبقرياتهم تتضاءل وتتوارى أمام غاراته وكراته , فقد كانوا يتساقطون عند مواجهتهم لخططه ومناوراته، ولعل من أهم سمات فروسيته:
1 استخدامه أسلوب المفاجأة لعدوه, فقد كان يأتيه من حيث لا يتوقع مكانا او زمانا.
2 تضليل العدو قبل الالتحام به، فإذا أراد الزحف إلى جهة، مشى إلى غيرها، ثم تحول إلى وجهته.
3 يعتمد كثيراً على الاستخبارات قبل ملاقاة العدو، فقلما أغار على أرض يجهلها أو ليس له عين فيها يبعث إليه بأخبارها.
4 يكثر من الاحتياط إذا هم بالزحف، ويفترض في خصمه من القوة أضعاف ماهو فيه.
5 رزق، يرحمه الله، ساعداً قوياً لا يكل، زاده المران قوة، فقد تدوم المعركة ساعات متواليات وسيفه يفتك في صفوف أعدائه.
6 قيادة جنوده بنفسه وهو في طليعة القوة المهاجمة، لا يكتفي بالتخطيط للمعركة من وراء الكواليس، يقول رحمه الله:لو كانت الحروب العربية كالحروب التي نسمع عنها في البلاد الأجنبية، ملوكها وقادتها يرقبون خطة الحرب وهم جلوس في منازلهم، والناس ينفذون أوامرهم، لهانت الحرب، ولكني في حروبي على خلاف ذلك, لقد كنت في أكثر المعارك في طليعة القوة المهاجمة, وبهذا كنت أرى استبسال من معي في القتال غير بسالتهم لو كنت وراءهم.
ويروى أنه خاض أكثر من مائة معركة، وعندما انتقل إلى جوار ربه وجدوا في جسده ثلاثاً وأربعين ندبة وأثر جرح.
لقد أسهمت جميع هذه السمات، الخاصة منها والعامة، القيادية منها والإدارية، الفطرية منها او المكتسبة في تشكيل أسلوبه المميز في الإدارة، والذي كان من أهم خصائصه:
1 مخافة الله، والثقة بالنفس، والسخاء والكرم.
2 اعتماده، يرحمه الله، على رسالة ورؤية واضحتين محددتين مكنتاه من معرفة ما يريد عمله.
3 الإدارة الحانية واستخدام أسلوب العلاقات الإنسانية مع من يقدرها.
4 الوفاء بالوعد واتباع القول بالفعل.
5 العدل والمساواة بين أفراد الشعب، وهذا مبدأ أساسي في الإدارة.
6 القدرة على تحمل ضغوط العمل، حتى قيل إن الصدمات تزيده قوة.
7 الإشراف بقدر الحاجة، أي استخدام أساليب متنوعة مع العاملين حسب حاجة الموظف للتوجيه أو التدريب أو التدعيم أو التفويض، وهذا مبدأ من مبادئ الإدارة الموقفية الحديثة.
8 اتباع سياسة الباب المفتوح، فجمع العقول والقلوب على حبه.
9 إتقان فن تحويل الأعداء إلى أصدقاء، أي اتباع سياسةالاحتواء .
10 قدرته في التأثير من خلال قوته في الخطابة، والتي أسهمت بدورها في تنمية قيادته المهيبةالكاريزمية .
11 اعتماده على الرقابة الذاتية، وذلك بعد أن استقرت في قلوب الناس هيبة الدولة.
12 قدرته الفائقة في إدارة الأزمات وحل المشكلات، مثل نجاحه يرحمه الله في إدارة الأزمة الاقتصادية التي شهدتها المملكة والعالم قبل الحرب العالمية الثانية، حيث رفض فكرة فصل الموظفين وعمل على خفض مرتباتهم بدلاً من ذلك, وهذا من الأساليب الإدارية المقبولة في الإدارة الحديثة للقوى البشرية.
كتب إبراهيم عبدالقادر المازني في عام 1936م، يقول :إن الذين عرفوا الملك عبدالعزيز قبل الحرب الكبرى وبعدها، يشهدون بأنه أبدى من الشجاعة والعبقرية السياسية ما أبلغه بحق المقام الذي صار إليه، ولم يكسب هذا المقام بشجاعته ومقدرته العبقرية وحدها، بل أبدى من المقدرة الإدارية وتنظيم الأحكام ما مكنه من تحقيق إصلاح كبير في بلاد حرمت أسباب الثورة والعلم، واشتهرت بما يضطرم فيها من نيران الحقد والمنافسة، فعرف هذا الملك كيف يسوسها، ويوفق بين نزاعات أهلها، ويلطف من الطباع الجافية، مع الحرص على فضائل أصحابها وشجاعتهم وتقشفهم وعدم استرسالهم في المسرات والملذات، وقد رأى سوء فعلها في البلدان الأخرى ,
من المركزية إلى اللامركزية:
إذا كانت صفاته الشخصية وسماته القيادية قد أسهمت في تشكيل نمطه القيادي الموقفي والتحويلي، فهل كان، يرحمه الله، مركزياً في إدارة شؤون البلاد؟، أم كان يميل إلى التفويض والمشاركة؟ وللإجابة على هذا لا بد لنا من القول بأنه كان لزاماً أن تركز جميع السلطات في يده في مراحل التأسيس الأولى، وذلك للاطمئنان على حسن سير العدالة بين الناس، واستتباب الأمن في البلاد، وتطبيق شرع الله على الجميع, يقول الزركلي في ذلك بأن الملك عبدالعزيزكان كل شيء في الدولة، ليس لأحد من إخوته أو أبنائه أو وزرائه أو أمرائه في الأقاليم، فمن دونهم، أن يتصرف في أمر أو يبت في شأن داخلي أو خارجي، قبل عرضه عليه برقياً أو هاتفياً أو مواجهةً أو كتابة، فإن أقره وإلا ذهب مع الريح, ومن الملاحظ أن درجة المركزية هذه أخذت تتضاءل تدريجياً مع ظهور ملامح الأمن والاستقرار في البلاد واتساع الرقعة الجغرافية للمملكة واكتساب الخبرة في إدارة شؤون الدولة وبروز رجال ثقاة متمرسين من أمثال الملك فيصل، رحمه الله، حيث عين نائباً للملك في الحجاز ورئيساً لمجلس الوكلاء ووزيراً للخارجية ورئيساً لمجلس الشورى فيما بعد.
وجدير بالإشارة أن تركز السلطات في يد الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، لا يعني الانفراد بالرأي وعدم المشورة, بل كان يعتبر الشورى أمراً واجباً في إدارته.
ففي مرحلة التكوين تمكن من اجتذاب نخبة مختارة من الرجال الأكفاء ممن صهرتهم التجارب في أوطانهم مثل رشيد عالي الكيلاني رئيس وزراء العراق السابق ويوسف ياسين السوري الأصل، وحافظ وهبة المصري المولد، ورشدي ملحس الفلسطيني، وفؤاد حمزة اللبناني، وعبدالله فيلبي الإنجليزي الذي اعتنق الأسلام والتحق بخدمة العاهل المعظم, فقد كان رحمه الله ينهل مما لدى هؤلاء من تجربة ومعرفة خاصة في أمور السياسة والعلاقات الخارجية ثم يحكم رأيه إما بالأخذ بما يرون أو إقرار ما يفرضه منظوره الشخصي مناسباً لمجريات الأمور للظروف السائدة.
أما أسلوبه في الاستشارة، فكان يعتمد على المناقشة الحرة بين المستشارين والاكتفاء بالإصغاء تمهيداً لتكوين رأي محدد في الموضوع، فكان يرحمه الله يطرح الأمر للمناقشة ويترك لكل المستشارين تداوله من مختلف الجوانب, وكان الجدل يحتد بينهم في بعض الأحيان، إلا أن جلالته يكتفي بالإصغاء لما يدور أو يوجه بعض الاستفسارات عند الضرورة, وكان ينهي الجلسة عندما يشعر أن الموضوع المطروح قد أشبع بحثاً ومناقشة، ويكون قد كون استنتاجاته وتبنى الخط الذي سوف يسلكه.
وهكذا كان يرحمه الله ماهراً في فن الإصغاء، وهو أحد المبادئ الأساسية الحديثة في الاتصال.
نشأة مؤسسات الدولة:
بلغ اهتمامه، رحمه الله، بالشورى بأن أمر بانتخاب مجلس استشاري من أعضاء متفرغين في مكة المكرمة بدأت نواته عام 1343 ه1924م , فكان هذا أول مجلس للشورى في المملكة، وظل مهيمناً على معظم أعمال الدولة التنظيمية والتنفيذية وخاصة في الحجاز، إلى أن تأسس مجلس الوزراء في الأول من صفر عام 1373ه، وقد جاء في خطابه لافتتاح دورة هذا المجلس الشوري مايلي:
دعونا لانتخاب أعضاء مجلس الشورى الجديد، فالواجب يقضي ألا ينقاد الإنسان في مثل هذه الحال إلى قلبه، لأن القلب ميال للهوى , يجب أن تنتخبوا الأكفاء من أهل الخبرة، بحيث إذا قام هذا المجلس على أساس قويم تجني البلاد منه فوائد جزيلة, يجب أن تنتخبوا من تعتقدون فيهم الإخلاص في العمل والمقدرة في الدفاع عن حقوق الأهلين، لأن الحكومة تأخذ حقها على كل حال، أما الأهلون فهؤلاء أعضاء مجلس الشورى، هم الذين سيكونون وكلاء عن الشعب, فإذا أحسنتم اختيارهم وانتقاءهم أحسن هؤلاء الدفاع عن حقوقكم، فأحسنتم بذلك للبلاد والعباد.
فمن هذه الكلمة الضافية يمكننا أن نستنتج عدداً من المبادئ أهمها:
1, مراعاة الدقة في انتقاء أعضاء مجلس الشورى.
2 تغليب العقلانية على الذاتية في الاختيار، أي موضوعية الانتقاء.
3 توافر الكفاءة والخبرة والمعرفة والإخلاص فيمن يختار.
4 , شمولية الوكالة: فعضو المجلس وكيلاً لكافة فئات الشعب، لا لفئة أو جهة أو حزب.
لم يكن اهتمام الملك عبدالعزيز قاصراً على إنشاء مجلس للشورى بل تعدى ذلك ليشمل مجالات الإصلاح والتطور الإداري كافة، فقد كان اهتمامه رحمه الله بارزاً بالإدارة وشؤونها منذ بدء تكوين كيان الدولة، ولكن كانت عملية الإصلاح والتطوير في عصره تأتي بصورة تجريدية ومستمرة, فتطور الجهاز الإداري من النظم التقليدية إلى النظم الحديثة مر بمراحل متعددة وفقاً للتطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجتمع، ووفقاً لتطور الأهداف والاحتياجات وتوافر الإمكانات, ابتداء من استعادة الرياض عام 1319ه، ومروراً بصدور التعليمات الأساسية عام 1345ه، فانشاء مجلس الشورى عام 1346ه، فإعلان تسمية الدولة بالمملكة العربية السعودية عام 1351ه، فمرحلة إنشاء الوزارات من عام 1349ه وحتى عام 1372ه، وصولا إلى إنشاء مجلس الوزراء عام 1373ه, فكل مرحلة من هذه المراحل تمثل خطوة انتقالية على سلم التحسين والتطوير في إدارة شؤون الدولة, وهو ما سوف نتناوله بشيء من التفصيل في مقالات لاحقة باذن الله.
وهكذا فإن الحديث عن أسلوب الملك عبدالعزيز في الإدارة لا يمكن إيفاؤه حقه في عجالة كهذه لكونه حديثاً عن تأسيس دولة وإعادة بناء مجد, فقد امتزجت عناصر شخصيته، يرحمه الله بالموقف السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي السائد آنذاك، وبنوعية الرجال الذين أعانوه في رفع البناء وتوطيد أركانه والحفاظ على شموخه, فهذه المحاور الثلاث: شخصيته يرحمه الله، والموقف، ونوعية الرجال، هي التي أفرزت رجل الدولة الأول الملك القائد عبدالعزيز, فقد كان يرحمه الله هو الدولة، والدولة هي الملك عبدالعزيز, فالاثنان صنوان لا ينفصلان, وقد مارس الإدارة بكل عناصرها من تخطيط وتنظيم وتوجيه ورقابة من خلال هذه الأبعاد بكل تفرد وتميز.
* عضو مجلس الشورى

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved