| مقـالات
حسان الشاعر بين الشجاعة والجبن
في مقال سابق من هذه الزاوية بدأت الحديث عن شجاعة الشاعر حسان بن ثابت، محاولا إنصافه ممن رموه بالجبن، وفي الواقع نحن لا نستطيع أن ننسب لحسان البطولة والشجاعة والفروسية الحربية، لأن الأخبار متواترة بتخلفه عن الغزوات، كما أننا لم نجد له أثراً حربياً في أيام قومه، في الوقت الذي كان فيه أبو قيس بن الأسلت، وأحيحة بن الجُلاح بن القواد، وكان قيس بن الخطيم وغيره من الأبطال المعدودين، ولكننا في الوقت نفسه لا نقبل وصفه بالجبن، وذلك للأمور التالية:
1 ان أحداً من خصومه لم يعيره بهذه الصفة التي لا يخفى أمرها في المجتمعات الجاهلية، ولا يقبلها منطقهم في الرجل العادي، بله الرجل المفاخر المعتد بنفسه وأرومته، فلو كانت موجودة فيه لكان أولى بشعراء يثرب في الجاهلية وشعراء قريش في الإسلام أن يذكروها فيه، ويتخدوا منها معولاً لهدمه والنيل منه، والتشهير به.
2 نقل أبو الفرج عن الوقادي (الأغاني 4/170 ثقافة) قال: (كان أكحلُ حسان قطع، فلم يكن يضرب بيده)، ومعنى هذا أن عدم اشتراكه في القتال راجع لمرض عضوي فيه، معلوم عند من حوله، بحيث لا يلام لديهم حينما لا يشترك في القتال, وقد أدى هذا المرض إلى إصابة يده بالشلل في آخر حياته، فكان في عماه وشلل يده في آخر أيامه لا يأكل من طعام يحتاج فيه إلى استعمال اليدين جميعاً، تحرزاً مما لا يطيقه مثله، فعن خارجة بن زيد (الأغاني 17/4) (ثقافة) قال: (دُعينا إلى مأدبة في آل نبيط فحضرتها، وحضرها حسان، فجلسنا جميعاً على مائدة واحدة، وهو يومئذ قد ذهب بصره، ومعه ابنه عبدالرحمن، فكان إذا أتى طعام سأل ابنه: أطعام يد أم يدين؟ يعني باليد: الثريد، وباليدين: الشواء، لأنه ينهش نهشاً فإذا قال: طعام يد، أكل، إذا قال: طعام يدين، أمسك يده) فلم يأكل, (الأكحل: عرق في وسط الذراع).
3 يقول ابن الكلبي (تاريخ دمشق 4/140): (ولم يكن الجبن من عادة حسان، بل كان لسنا، شجاعاً، فأصابته علة أحدثت فيه الجبن، فكان بعد ذلك لا يقدر أن ينظر إلى قتال، ولا يشهده).
4 ان معاصريه كانوا يعرفون هذا المرض فيه، ولهذا السبب لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخذه على تخلفه، في الوقت الذي لم يعذر فيه أحداً، ولم يكن دفاعه بشعره عن الدعوة ليشفع له في التخلف عن الحرب، فإن كعب بن مالك كان شاعراً يذب بشعره عن الرسول، وعن الإسلام، وحين تخلف في غزوة تبوك تعرض للتعنيف واللوم والعزل الاجتماعي حتى أنزل الله توبته في القرآن، ولم يخض الصحابة في اتهام حسان بالجبن، لمعرفتهم بالمانع الحقيقي لعدم شهوده الحرب، لقد قال هو لصفية بنت عبدالمطلب: (والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا)، أي ما أنا بصاحب قدرة على القتال, وقال: (ولو كان ذاك فيَّ لكنت الآن مع رسول الله).
5 إن حسان كان شجاع الكلمة، يدافع عن أحساب قومه في الجاهلية، وينافح عن الرسول ودين الله في الإسلام، والكلمة موقف، والموقف فعل، لا يقل بأي حال من الأحوال عن حمل السلاح وخوض وطيس الحرب، وأكثر الذين أرخوا لحسان إنما وصفوه بالجبن اعتمادا على خبر إسلامي تناقلوه وحمّلوه فوق ما فيه، وفسروه على غير وجهه، ذلك أن حسان يوم الخندق لم يشترك في الحرب، واوى إلى حصنه (فارع) مع النساء والأطفال، ومن اللواتي كن في الحصن صفية بنت عبدالمطلب قالت صفية (السيرة النبوية لابن هشام 3/239 والأغاني 4/169 ثقافة): وكان حسان بن ثابت معنا فيه، مع النساء والأطفال فمر بنا رجل من (الأعداء) فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم، وإذ أتانا آت، فقلت : يا حسان، إن هذا من (الأعداء)، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله، قال: يغفر الله لك يا ابنة عبدالمطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا: قالت فلما قال لي هذا ولم أر عنده شيئا احتجزت (أي شدت ثيابها على وسطها) ثم أخذت عموداً، ثم نزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن، فقلت يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فانه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل إلى أكثر الخبر، الذي أشرنا إلى أنه لا ينبغي التعامل معه بصفة مستقلة، بل لابد من فهمه داخل ما قدمنا من إصابته في أكحله، وعجزه عن استعمال أدوات الحرب، ودعونا نسمع حسان وهو يفاخر بمنجزات قومه الحربية، وذلك في إحدى روائعه حين يقول:
ويثربُ تعلم أنّا بها أسود تُنفّض ألبادها نهزّ القنا في صدور الكُما ةِ، حتى نُكسّر أعوادها إذا ما انتشوا، وتصابى الحلو مُ واجتلب الناسُ أحشادها وقال الحواصن للصَّالحي ن عادَ له الشرُّ من عادَها جعلنا النعيم وقاء البووس وكنا لدى الجهد أعمادها |
وكل ما نهدف إليه أن ندرك أن الشجاعة تكون في الرأي وفي الميدان، وكذلك الجبن، وكم يخلط الناس بين التهور والشجاعة، كما لا يفرقون بين الجبن وحسن التروي، والنجاح إنما يتحقق في حسن التقدير للأمور، والتوفيق بين المتقاربات والمتناقضات، ومن ثم وضع الأمور في نصابها بالنظر الثاقب والرأي السديد وها هو خالد بن الوليد سيف الله المسلول، يصرخ وهو على فراش الموت: لا نامت أعين الجبناء.
|
|
|
|
|