| الثقافية
في كثير من دول العالم المتحضر، أصبحت الثقافة صناعة وسلعة تعمل جهات عديدة على تصنيعها وإخراجها بالشكل المنشود,
والمطلوب,,والمقصود بصناعة الثقافة هنا هي صناعة الكاتب,, ثم الكتاب والترويج له, والعمل على انتشاره، ونجاحه، وبقائه أطول مدة ممكنة,
ولا شك أن مثل هذه الصناعة معقدة، ليس فقط في نتاجها، وهو الكاتب والكتاب، ولكن أيضا في الأطراف العديدة التي تقوم بتصنيع هذه السلعة, ففي بلاد عديدة من العالم تعتبر القراءة غريزة إنسانية يسعى الإنسان إلى إشباعها بكل ما لديه من مشاعر, ويسعى صناع الثقافة إلى صناعة كل ما هو جذاب، ومشبع لهذه الغريزة,
ورغم وجود الوسائل العديدة المنافسة للكتاب في القرن العشرين، مثل التليفزيون والإذاعة والفيديو والسينما, إلا ان الكتاب لا يزال سيدا,ومسيطراً بالمقارنة بكل هذه الرسائل المنافسة, وقد تحول الكتاب، والكاتب إلى صناعة مثل صناعة السينما, فإذا كانت السينما في البداية فن فإن عوامل صناعية عديدة تتدخل في تكوينه, ولا نقصد بالصناعة هنا عملية الصناعة, وإعداد الورق, والتسويق, وما إلى ذلك فليس هذا مجال حديثنا بالمرة,
المقصود بالصناعة هنا هو الدور الذي تقوم به مؤسسات ثقافية واقتصادية, وأيضا صناعة الأدباء أنفسهم في صناعة الثقافة بوجه عام, ولا يمكن لمثل هذه المؤسسات ان تظهر، وأن تقوم بهذا الدور إلا إذا كان هناك مناخ عام يتيح لمثل هذه المؤسسات أن تتكون وتنتشر,
وهذه المؤسسات ليست فقط عينات، بل هناك أشخاص يمثلون في حد ذاتهم مؤسسة مثل برنار بيفو في فرنسا, فهو ليس فقط كاتب وممثل، وناشر، وصاحب مجلة وصاحب برنامج تلفزيوني شهير، بل هو مؤسسة صناعية متحركة لتصنيع الثقافة في بلد مثل فرنسا,
كيف يمكن لشخص أن يصبح صانعاً للثقافة, ومسيطراً على صناعتها في بلد يعتبر بؤرة الثقافة في العالم المعاصر, كيف يمكن له أن يتحكم في هذه الصناعة ويحتكرها, ويصنع لها سياستها, وينسق لها, ويشارك في تشكيلها؟
قبل أن نتحدث عن هذه الظاهرة , يجب أن نذكر ان هناك جهات عديدة تساهم في صناعة الثقافة, وهذه الجهات منها:
1 الناشرون,
2 فالأكاديميات الأدبية والمؤسسات التي لها اعتبار الأكاديميات,
3 المجلات الثقافية المتخصصة, وغير المتخصصة,
4 الإذاعات وخاصة الإذاعات الثقافية,
5 المعارض وصالونات الكتب,
6 الورش الأدبية,
7 برناربيفو,
فالناشرون على سبيل المثال هم الذين يختارون عناوين الكتب، ويقومون باحتكار الكتاب للعمل، والنشر لديهم, وهم الذين يقومون بتمويل الأكاديميات الأدبية التي تقوم بدورها بمنح الجوائز الادبية لأدباء دور النشر الكبرى, كل حسب مساهمته, وحسب أهميته, فدور النشر الكبرى تخرج دائما بنصيب الأسد في مواسم الجوائز الأدبية كل عام, ولا يمكن لصناعة الكتاب أن تزدهر إلا في إطار هذه الدوائر المعقدة, فالجوائز الأدبية تعطى للكتاب أهمية، وترفع من قيمة مبيعاته, وأغلب أعضاء الأكاديميات من الأدباء يعملون لحساب دور النشر الكبرى, ورغم أنهم يبدون محايدين,إلا أنهم غالبا ما يتحيزون للناشرين الكبار, ليس فقط بالعمل لديهم، بل بمنح كتبهم الجوائز,
وتشترك المجلات المتخصصة, والصفحات الأدبية في المجلات والصحف غير المتخصصة في تنشيط هذه الصناعة, وغالباً فإن المحررين في هذه الصفحات يعملون أيضا لدى دور النشر، أما كمستشارين، أو ينشرون كتبهم فيها، ولذا فإن شبهة المصالح, والمجاملات باقية في الخفاء,
والغريب أن أحداً لا يمكن ان يكشف عن هذه الامبراطوريات الثقافية, لأنه سرعان ما يدفع الثمن غالبا، ليس فقط بوقف نشر أعماله, لكن بضرب مصالحه أينما كان، ولذا فإن الكثير يشترك في هذه المعزوفة, وهو يعرف قواعدها ولا يحاول الخروج عليها بأي ثمن,
ونفس الأسماء التي تشترك في تحرير هذه الصفحات موجودة أيضاً في برامج الإذاعة، والتليفزيونات, سواء في الإذاعات المتخصصة, مثل إذاعة فرانس انتير، وهي أشبه بإذاعة البرنامج الثاني في القاهرة, وأيضا بعض القنوات الثقافية في التلفاز, وشبكة المصالح معقدة للغاية, وظاهرة في كل هذه البرامج, وتبدو كأن هناك شخصيات مافوية تسيطر عليها، فكما سبق الإشارة, فإن مقدمي هذه البرامج يبرزون فيها، ويلمعون في الصحافة الأدبية, ويفكرون احياناً في الكتابة والتأليف, وتدور لعبة المصالح، وتتشابك وتبدو كأنها تشترك جميعها في صناعة الثقافة, ولذا فإن هناك أسماء أكثر لمعانا من غيرها, يمكن أن نراها تمارس النقد في مجلات, ثم تمارس الإبداع لدى ناشرين كبار, وهم ضيوف دائمين في إذاعة فرانس أنتير, وتظهر صورهم دائما في الصفحات والمجلات المتخصصة وغير المتخصصة,
أما الورش الأدبية فهي غير موجودة في فرنسا, لكنها ظاهرة من ظواهر تصنيع الثقافة في العالم المعاصر, والطريف أن الجامعات هي التي تتولى الإشراف عليها, مثل جامعة أوهايو, حيث يتم تدريب الطلاب الراغبين في أن يكونوا أدباء على عملية الإبداع, باعتبار ان الإبداع حرفة يمكن التدريب عليها مثلما يحدث لأي حرفة أخرى, فعلى الكاتب أن يتعلم في هذه الورشة كيف يستخدم أدواته وكيف يكتب بأسلوب جذاب, ومتى يكتب, ومتى يتوقف عن الإبداع, والجدير بالذكر أن الكثير من الأدباء المشهورين الآن في الولايات المتحدة قد تخرجوا من هذه الورش,
في فرنسا، يمكن اعتبار برنار بيفو مؤسسة بأكملها تشارك في صناعة الثقافة المعاصرة, وتجيء أهمية بيفو في جاذبيته الشديدة لمذيع لأشهر برنامج ثقافي تليفزيوني هو برنامج الهمزة أو ابستروف , والذي أحدث دوياً كبيراً في الشهور الأخيرة عندما أعلن صاحبه انه قد اختار أن يوقفه ستة أشهر كاملة من أجل تجديد دمه, لم يتصور الفرنسيون أنهم يمكنهم أن يعيشوا بدون هذا البرنامج, وراحت الصحف والمجلات ووسائل الإعلام تستطلع رأي الناس فيما حدث, ونشرت مجلة الاكسبريس في أحد أعدادها ان توقف البرنامج كارثة ثقافية وطنية, والجدير بالذكر أن ابستروف برنامج أدبي في المقام الأول مدة عرضة ساعتان ونصف أسبوعياً يستضيف فيه بيفو واحداً، أو مجموعة من الأدباء المشهورين ليس في فرنسا فقط، بل في العالم، فهو يلتقط دائما الأدباء الذين يأتون لزيارة فرنسا، ويجري معهم حوارات جذابة, كما أنه يسافر إلى الكثير من الدول لمقابلة أدبائها, وتصويرهم في حلقات البرنامج,
وقد لا يتصور المرء في عالمنا العربي ان هناك برنامجا أدبياً يمكن عرضه لمدة ساعتين ونصف يخلو من المنوعات ومواد الترفيه التقليدية, ويخلو أيضا من الحديث في الشؤون السياسية, ولكن بيفو استطاع أن يفعل ذلك أسبوعياً لفترة تقترب من الخمسة عشر عاما,
الطريف أن بيفو، المولود في 5 مايو عام 1935م قد مارس الإبداع ولم يحقق أي صدى, ولعب كممثل بطولة بعض التمثيليات التليفزيونية ولم يكن جذاباً كممثل مثلما هو كمذيع يعرف كيف يستخرج من ضيفه الدرر,,
واللألئ، فيما يتعلق بمسائل الأدب والفكر, ولا يقتصر بيفو، في نشاطه على التمثيل, والإذاعة، بل إنه يشارك في مسألة النشر بشكل أوضح, فهو صاحب أهم مجلة أدبية تهتم بصناعة النشر والكتاب في فرنسا منذ خمسة عشر عاما، وهي مجلة قراءة أو لير , والتي صدر منها حتى الآن مائة وتسعين عددا, وقد نجح برنار بيفو من خلالها أن يجعل الثقافة وجبة شعبية مثل الفنون الجماهيرية كالسينما والمسرح, فإذا كان فن السينما يحظى بأهمية كبيرة في برامج الإذاعة والتليفزيون, وأيضاً فيما يتعلق بعدد المجلات المتخصصة مثل كراسات السينما وغيرها فإن صناعة الأدب بدأت تحظى على يدي بيفو بنفس الشعبية منذ منتصف السبيعنات, فإلى جانب المجلات التقليدية مثل ماجزان ليترير و الأسبوعيات الثقافية , صدرت مجلة لير لتكون مجلة شعبية تتعامل مع شؤون الكتاب كأنه سلعة مثل كل السلع، فالمجلة على سبيل المثال، بخلاف المجلات المشابهة، تعتمد على الإعلان, كما أنها تقيم مسابقات أدبية, ومسابقات عامة تتعلق بصناعة الكتاب, مثل المسابقة السنوية المعروفة تحت اسم بطولة القراءة وهي مسابقة تشجع القراء من الأطفال والشباب على القراءة, وقد كثف بيفو حملته في السنوات الأخيرة لإنجاح هذه البطولة، سواء بمتابعتها في مجلته، أو في برنامجه الأسبوعي, فأصبحت مسابقة قومية يبدأ الإعلان عنها في مقتبل الصيف ويضع جوائز جيدة وثمينة, فضلا عن أن الفائزين فيها يكونون ضيوفاً في برنامج أبستروف وهو شرف ينشده الناس والقراء في فرنسا,وعلى سبيل المثال، فإن المسابقة التي اقيمت هذا العام، والتي أعلن عنها في عدد شهر إبريل 1991 من مجلة لير قد اشترك في تمويلها ومساندتها العديد من شبكات التلفاز الفرنسية وشركات الطيران,
ومحطات الإذاعة، ووزارة الخارجية، ووزارة الفرانكفون، ووزارة التعاون والتنمية, وقد أقيمت هذا العام من أجل الناطقين بالفرنسية داخل فرنسان وخارجها,
وتجيء أهمية هذه المسابقة أن بيفو نجح ان يصنع من الثقافة لعبة قومية, لها بطولات شعبية مثل الألعاب الرياضية وتمتزج أسئلة هذا العام بين السهولة الواضحة, والصعوبة الممكنة الحل, وقد اعتمدت على مجموعة من الأسئلة منها سؤال حول تكوين كلمات من مجموعة حروف متناثرة,وأغلب هذه الكلمات جديد في اللغة الفرنسية, ومثل بعض الأسئلة في قواعد اللغة, كأن يطلب من القارئ إيجاد صيغة الجمع لكل مثل يوسيسو ثم هناك سؤال تضمن الكثير من الكلمات الصغيرة )3 أو 4 حروف( والمطلوب إخراج الكلمات غير الفرنسية منها, ثم هناك نص مكتوب، يبدو لأول وهلة مليئا بالبلاغة، لكنه مزخوم بالأخطاء النحوية والمطلوب تصحيحه,
وبمثل هذه النماذج من المسابقات الثانوية نجح برنار بيفو ان يحول الثقافة إلى تظاهرة شعبية عامة, فالإقبال على هذه المسابقة منقطع النظير, وقد انتقلت هذه المسابقة فيما بعد إلى العديد من محطات التلفاز وقنواته,
ولعل المشاهدين للقناة الفضائية الفرنسية يلاحظون ان مثل هذه البرامج تحظى بجماهيرية كبيرة وواسعة,
ليس بالطبع هذا هو دور مجلة لير , فهي مجلة متابعات لكل ما يصدر في فرنسا من كتب خلال شهر بأكمله, ويمكن للقارئ قراءة كل ما يتعلق بهذه الكتب بشكل جذاب, كأن يقرأ فصلا من رواية وكتاب جديد يتم التركيز على عشرة كتب جديدة بشكل تفصيلي على الأقل والمجلة تهتم بأخبار الكتاب والأدباء, وتنشر حديثا شهرياً مع كاتب في دائرة الضوء,
وأهم ما فيها، حسب رأيي، أن القارئ يمكن أن يلاحظ الإعلانات عن الكتب جذابة مثل الإعلانات عن أي بضاعة أخرى, كالسيارات, والمشروبات, وقد ساعد هذا أن يصبح الكاتب سلعة شعبية مطلوبة, ومثلما يشترك الفنانون في الإعلان عن بعض السلع في أنحاء عديدة من العالم, فإنك يمكن أن ترى إعلاناً في مجلة لير عن كاتب مشهور ينصح قراءه أن يكتبوا بنوع معين من الأقلام، فهو يستعلمها بصفة شخصية عند الكتابة,, أو أن يطلب نفس الكاتب من قراءه السفر إلى بلد ما، من أجل السياحة، فهو قد سافر إليها شخصياً وهو بالطبع إعلان سياحي,,
إذن فصناعة الثقافة في مثل هذه البلاد لا تقوم فقط على مسألة النشر والجوائز، ولا تقتصر فقط في استضافتهم على صفحات المجلات، وفوق الشاشات، بل لتحويلهم إلى سلعة شعبية, وكما سبق الإشارة فإن الكتاب يتهافتون على مثل هذه الأمور لأن هذا يساعد على رفع أرقام مبيعات كتبهم,
ولأن الكاتب بشكل عام يود أن يكون قريباً من قرائه، بأي شكل من الأشكال، ومثل هذه الأمور تبدو طبيعية للكاتب في زمن المنافسة الشديدة بين الكتاب,,
والوسائل الإعلامية الأخرى,, ولذا فإن صناعة الكاتب تلقى ازدهاراً ملحوظاً, وعلى سبيل المثال فإن المتتبع للصحافة الفرنسية, بوجه عام، سيلاحظ أن الساعات المخصصة لمتابعة الكتب تزيد بكثير عن المساحات المخصصة لكافة الفنون مجتمعة, بما فيها الفن التشكيلي, والسينما والمسرح والموسيقى, ولعل هذا يعتبر بمثابة رد على هؤلاء الذين يدعون ان عصر الكتاب قد انتهى, وان المنافسة كانت لصالح كل الوسائل المنافسة للكتاب,
برنار بيفو، هو اذن واحد من الذين يصنعون الثقافة في العالم، وخاصة في فرنسا، ورغم كل هذه الشعبية التي يحظى بها، ورغم نجاحه الكبير، إلا انه يمثل حالة احتكارية غريبة في شأن صناعة وترويج الثقافة, فهو ليس له منافس يقف قبالته على جانب آخر, ولذا أحس الناس بمدى فداحة الخسارة حين أوقف برنامجه أبستروف , ولو تصورنا أن بيفو رجل أهواء، فلا شك أنه سيعمل على رفع ما يشاء من الأدباء، وعلى التعتيم على من يشاء أيضا من الأدباء, ولذا فإن من مصلحة أي كاتب أن تكون علاقته قوية مع برنار بيفو,
فلا شك أن في هذا فائدة مباشرة للكاتب, الذي راح يعرف الثقافة في حديث أجرته معه مجلة باري ماتش على النحو التالية:
)الثقافة هي وسيلة لرؤية الأشياء, والنظر إلى العالم, اذن فالاقتصاد والرياضة، على سبيل المثال لا يعتبران من الثقافة, سوى ما يتعلق منهما بالسلوك الإنساني, وما يبقى من الثقافة موجود دائماً في الكتب(,
وفي نفس الحديث اعترف بيفو أن برنامجه الذي بث 724 حلقة قد جعل من بعض الشباب كتابا كبارا مثل باتريك موديانو، وبول لوملتز وأريك أورسنا وآخرين,
|
|
|
|
|