| الثقافية
ما هي درجة وطبيعة العلاقة بين الشاعر الجديد وبيئته وعصره، وإلى أي مدى تتضح لنا رؤيته إليهما وهما يتجسدان في مكان وزمان ما من مشهد وفضاءات نصوصه، وإلى أي عنصر من عناصر البيئة أو العصر تنحاز هذه النصوص؛ وأيهما يقود الآخر أو يسيطر عليه أو على رؤاه الجمالية ومواقفه: الشاعر أم بيئته أم عصره، وهل يمكن الخروج بعدد وافر من النصوص التي يمكن مقاربتها على أنها تجسيد إبداعي لهذه البيئة أو لهذا العصر، ولماذا وكيف يتفاوت الشعراء في مقاربتهم لهذه الإشكالية القائمة منذ فجر تاريخ الشعر حتى الآن، وهل على الشاعر أن يقيم هذه العلاقة، وإلى أي مستوى، وماذا يترتب عليه إن أقامها من مسؤوليات والتزامات وماذا يترتب عليه من حقوق؟ ثم ما هي حدود هذه البيئة وهذا العصر؟
منذ وجد الشعر والشعراء، حتى الآن، ومستوى وطبيعة هذه العلاقة وطريقة ممارستها وتجسيدها ومستوى بروزها في النصوص ودرجة التزام الشعراء بها تختلف من شاعر إلى آخر، بحسب رؤية كل منهم إلى الشعر ماهية ومفهوماً ووظيفة، وبحسب رؤاه ومواقفه وطرق تعبيره ودرجة انتمائه إلى مجتمعه الإنساني الذي يعيش فيه زمنياً ومستوى التزامه بهذا الانتماء، وبحسب أسلوبه في رصد التجربة الإنسانية المعاصرة له وتعبيره عنها، وبحسب فرص حرية الإبداع المتاحة أو المغتصبة ووطأة القوالب والمناهج والقيود السياسية والفكرية والاجتماعية ومستوى تعامل الشاعر معها والذي توزع بين طرفي نقيض أعلاهما ما يرمز إلى قيام الشاعر بمغامرات نادرة وخارقة للعادة، وبحسب درجة حساسيته الجمالية الإنسانية وتقدميتها أو رجعيتها أو حركيتها أو استسلامها أو انحطاطها وجمودها أو طموحها واستشرافها المتواصل باتجاه المستقبل، وبحسب جرأته في التعبير عن الحقائق الحسية والفكرية والمعنوية وجدليات الإنسان مع وجوده وهمومه وتجاربه الإنسانية التي يعيشها والصعوبات والطموحات والإحباطات التي يعاني منها وعناصر محيطه الدرامي أو التراجيدي أو الكوميدي الذي يتداخل مع لحظاته ومكانه وذاته بطرائق تستحق التأمل والإضاءة والمقاربة، حين يسابق وهو يصارع عصره ومكانه وظروفه,
التساؤلات التي بدأنا بها هنا كثيرة وكبيرة وتحتاج إلى دراسات وبحوث واستقراء ورصد وتحليل لمسيرات شعرية تمتد في الأمكنة والتواريخ والظروف المختلفة وشتى التوجهات الشعرية,
ولكن هذا، لا يمنع من مجرد الإشارة وإضاءة نقاط مهمة في فضاءات مشهد هذه الإشكالية التي تتحول وبمجرد مقاربتها إلى إشكاليات لا تنتهي ولا تشفي كل جروحها وآلامها الأسئلة التي تتوالد ملقية اللوم أولا وأخيراً، وفي كل نقطة ومفصل على الشاعر والتزامه وانتمائه ووعيه بمسؤولياته وواجباته وحقوقه الإنسانية والجمالية,
ربما، في بدايات الشعر التي لا أحد، حتى الآن، يعلم مكانها أو زمانها الذي ولدت فيه وانطلقت منه كان الشاعر اكثر فطرية وامتزاجاً والتصاقاً بيئته القريبة المحدودة التي تدركها الحواس فقط؛ ثم وفي مراحل لاحقة من تطور الشعر مزج هذه البيئة الحسية بعناصر وخلفيات يسيرة من ما يجري في الجانب الآخر من هذه البيئة معنوياً، أي من ما يجري في عقول وقلوب ومشاعر أبناء هذه البيئة القريبة، وذلك في وصف ورصد تسجيلي أقرب ما يكون إلى ما يقوم به مؤرخو الأحداث ولكن مع تسليط بعض الأضواء على ما يوجّه هذه الأحداث من أفكار وقناعات وبلغة تختلف عن لغة المؤرخ في مجملها، ووصولاً في مراحل لاحقة إلى مقاربة هذه الأفكار والقناعات نفسها واخضاعها للتساؤلات والشكوك، فيما هو يخضع بيئته وعصره وعناصرهما وإنسانهما وما يدور في هذا الأطر وبين هذه الأطراف من علاقات وجدليات لكثير من التأمل والتصوير الذي يتجاوز مستوى الوصف إلى ما هو أعمق من رصد الظواهر وإلى ما هو أكثر التزاماً بمجرد المشاهدة والتسجيل,
ولا شك أن الشعر والشاعر قطعا مراحل واجتازا غابات شائكة من الأزمنة والأمكنة والتطورات والتجريب حتى وصلا إلى مرحلة أصبح معها الشعر رسالة رؤيوية تؤدي إلى التحريك والتغيير وتدفع إلى التقدم فيما هي أداة فعل اجتماعي إنساني ونص جمالي إبداعي في الآن نفسه، وعبر توسيع آفاق التجارب الذاتية الفردية لتتجاوز حدود وحيز البيئة والمجتمع المحيط بالشاعر مباشرة وسعياً إلى الانطلاق منهما، من خصوصيتهما وخصوصية علاقة الشاعر معهما، إلى الشمولية الإنسانية، ليتم في إطار تجربته الخاصة وعلاقته الخاصة ببيئته وعصره تجسيد علاقة الإنسان الخاصة بعصره وبيئته وتجربته الخاصة أياً كان مكان أو زمان هذا الإنسان، وعندما تلتقي بينهما نظرات مشتركة تجاه الكون وقيمه وما يصيبها من تطور وتغيير، وبشمولية فنية إنسانية لم تعد معه القصيدة قصيدة هذا الشاعر بالذات والذي عاش في هذه البيئة وهذا العصر بالذات، ولا تجربته وحده، بل قصيدة كل إنسان أياً كان عصره وبيئته، وليست لقائلها فقط، بل شركة إنسانية لا تحدها أمكنة أو أزمنة أو قوميات,
|
|
|
|
|