| مقـالات
ولأن علاقتنا بالآخر المغاير: فكراً وسلوكاً وتصوراً للكون والحياة وسائر القيم من أخطر العلائق وأكثرها تعقيداً، فإن الأمة مضطرة إلى صياغة حضارية لأسلوب التعامل، إذ لم يعد الخطاب الاهتياجي الانطباعي الأعزل مجدياً، ولا سيما أننا مستبطنون للغرب متداخلون معه بوصفه حضارة مهيمنة, ونحن معه على مستويين:
الصدام العسكري.
الصدمة الحضارية.
والصدمة قد تؤدي إلى الارتباك والتصرف غير السوي, و(الصدام)و(الصدمة) جاءا على صور شتى، وعبر ممارسات متطاولة مع الزمن، مرت فيها الأمة بخطابات: سلفية وإصلاحية وتوفيقية وتلفيقية واندهاشية واندماجية وتغريبية وعصرية وعلمانية، ولما يتوحد خطابها في مواجهة الآخر في أي مرحلة من مراحل الحياة المعاصرة, كما مرت في ظل هذا التشرذم بمواقف عصيبة ومواجهات متعددة مع الذات ومع الغير, وهي اليوم تواجه (النظام العالمي الجديد) الذي أفضى إلى (العولمة) بالتشتت والاهتياج والارتباك.
جاء الصدام العسكري منذ (الحروب الصليبية) مروراً بالحروب المتعددة التي باشرها العدو بجيشه، أو ناب عنه فيها الضحية، حيث قضى على أمنه واقتصاده وجيشه وعمق العداوة مع الأقربين، فيما بدأت الصدمة الحضارية بحملة (نابليون) المتسلحة بالعلم والآلة وفق سياقها، وبما كان يمارسه فيما بعد المناديب الاستعماريون والمستشرقون والمبشرون والمستغربون من محاولات مشبوهة لطمس الهوية وتجفيف منابع الحضارة الحاضنة للإسلام، وبما هو قائم من تواصل متعدد القنوات، مما أثر على المفاهيم والقيم، وتلك العلاقة غير المتكافئة، تنطوي على مآس تستدعي الشك والارتياب والحيطة والتدبر، وحقائق التاريخ تشهد بما يوجب أخذ الحذر والتحصن بسلاح المعرفة، والغرب يمثل حضارة مغايرة في وجوه كثيرة ومطابقة في وجوه أخرى, إذ تنطوي حضارته على إيجابيات وقيم ومثمنات: مادية ومعنوية، نحن أحوج ما نكون إلى الكثير منها، وهو ما يؤكد عدم وجود (نص) بريء ولا حضارة خالصة من التأثر والتأثير، وقل أن يكون في الممارسات الإنسانية شر محض أو خير محض، ولهذا لابد من دقة الفرز بين المجدي وغير المجدي والمحظور والمباح، وفي هذا السياق يكون اختلاف وجهات النظر هو أصل الوجود، والاتفاق حالة استثنائية، وقد جاء في الذكر الحكيم عن الاختلاف (ولذلك خلقهم) ومن ثم يجب ألا تقوم المواجهة على النفي المطلق، بل على الفهم وتبادل المصالح، والمؤسف أن الغرب المستكبر يحتفظ بشفرات حضارته العلمية وإيجابياتها، ولا يفيض على الآخر إلا بما يفصله عن حضارته ولا يحقق له الندية، ولو أنه رضي بتكافؤ الفرص وتبادل المكتشفات ونظر بعين منصفة لوجد في الحضارة الإسلامية ما يدعيه لحضارته من نزعات عقلية وعلمية وإنسانية وسلمية، ولعرف أن الحضارة الإسلامية حيوية شمولية سوية, والمؤسف أن تواصله معنا مخيف ومفجع، وغزوه وتآمره مما لا يحتمل إلا قولاً واحداً, وما دمنا بصدد الحديث عن (الثقافة وتحديات العولمة)، وهو لون من الغزو والتآمر فإن علينا وعي مفهومهما لكيلا نخلط بين ما هو ضار وما هو مفيد, لقد عولنا على الغزو والتآمر كثيراً، وجعلناهما مناطين لفشلنا وتخلفنا، نعلق عليهما كل ما صنعناه بأيدينا، واقترفناه بجهلنا, إن فهمنا (للغزو والتآمر) أصبح من أخطر الإشكاليات، والفهم الخاطئ لا يقل عن فعلهما المتعمد، إذ إن خطأ المقدمات يؤدي إلى خطأ النتائج و(الغزو والتآمر) قائمان، والقول بعدم قيامهما غفلة أو تغافل أو مواطأة، والتعويل المطلق عليهما حيلولة دون محاسبة الذات والتفاعل الإيجابي مع الآخر، فما من إخفاق أو نكسة أو حرب مجانية أو ثورة دموية أو قتل همجي أو تغيير إلى الأدنى لا نريده ولا نقبل به إلا ويكون نتيجة غزو أو تآمر، ونحن أبرياء ملائكيون، وفات المعولين على هذا الادعاء التواكلي التبريري أن (الغزو والتآمر) كالجراثيم والفيروسات لا تفعل فعلها إلا في الأجسام المريضة التي لا تملك المناعة.
والأمة المرتبكة الوجلة بحاجة إلى وضع صيغة حضارية لتداول (الغزو والتآمر) القائمين بأقصى حد من البشاعة والنكاية.
والصياغة المسددة تمكننا من ألا نغفو على كف الغرب، ونحسن الظن به مع الذين ركنوا إليه واطمأنوا إلى مقولته المنافقة: (إنا معكم), ولا نجعل أي تواصل معه غزواً وتآمراً، ومصاب الأمة من الموالين للغرب ومن المسرفين في مقاطعته وفي تحميله لمسؤولية الإخفاقات, والمتعامل مع المستجدات الفكرية والثقافية بالذات كالمشتغل بنزع الألغام يحتاج إلى خبرة ومعرفة وحذر، والورع وحده غير كاف للمواجهة.
و (الثقافة) حين تقع في مأزق (العولمة) ثم لا تكون قادرة على الاستيعاب أو المواجهة، تستفحل فيها القابلية للتبعية، وتفقد أهلية الوجود السوي، والمؤكد أن (الثقافة العربية) تمتلك في ذاتها القدرة على التفاعل، لأنها ثقافة أصيلة قوية منيعة محفوظة بوعد الله تدعو إلى التفكير والعمل وإعداد القوة واكتشاف الآيات في الآفاق وفي الأنفس، ولا تمنع من صناعة ولا من زراعة ولا من استحداث أي منهج أو نظام متى كان ذلك الفعل مراعياً للمقاصد الإسلامية محققاً الحاكمية مظهراً للدين, والثقافة بكل ما لها من مؤهلات تعيش مع إنسانها الحامل لها عارضاً مرضياً قد لا تتمكن معه من مواجهة الطارئ، بحيث لا يمكنها إنسانها المرتبك من تجاوز المرحلة المعاشة بسلام، والإشكالية في الذات العربية، وليست في الثقافة العربية.
وعلينا إزاء ذلك أن نبحث في أهليتنا لاستبطان ثقافتنا قبل أن نفكر في عصرنتها، وعلينا أن ننظر كم هو الفرق بين عصرنة الثقافة وغربنتها, والإنسان العربي مع ما هو عليه من ضعف يقع تحت طائلة أدواء مصمية:
جهل الذات وانكار تخلفها.
تحميل الحضارة مسؤولية الإخفاق.
التنازع في مواجهة النوازل.
الركون إلى العدو.
وعندما تقترف الحضارة المهيمنة في ظل هذه الأدواء تنميط الثقافة وسلوكيات الأمم المغايرة وإخضاعها لمركزية النظام المعولم فإن الكارثة ستكون عالمية، تجتاح كوكبنا الذي قزمته الثورة العلمية والمعلوماتية والاتصالية، ولأن الإنسان مادة موحدة وقيم معددة فإن إشكاليته في القيم وهي مجال العولمة الثقافية، وذلك مكمن الخطورة.
وإذ تكون (العولمة) قادمة من الغرب على مطايا التقنية، نافذة كالهواء عبر الفضاء مستهدفة القيمتين:
المادية.
والمعنوية.
فإن واجب الأمة فهمها فهماً معرفياً وصياغة أسلوب حضاري للتعامل معها، والأمة العربية الإسلامية مطالبة بمبادرة حضارية لتلقي أطروحات الآخر, ولأن حضارة الأمة إسلامية فإن أولى المهمات فهم تلك الحضارة واستصحابها وتمثلها بعد التصفية والتربية، وتفهم الغرب ومحاورته وتبادل المنافع معه من المقتضيات الإسلامية التي لا غبار عليها، والحفاظ على الخصوصية الحضارية والثقافية المتمثلة في نقاء العقيدة وإظهار الدين مهمة كل مفكر ومثقف مسلم، وحوار الحضارات أفضل من صدامها، والتساؤل والنقاش أفضل من الانغلاق أو التسليم، ولن يكون حوارنا حضارياً حتى نفهم ذواتنا بكل ما هي عليه، ونعي مقتضيات كينونتنا الثقافية بكل متانتها ومتطلبات الإيغال فيها، وحتى لا نخلط بين هذه الكينونة العربية المتخلفة ومشروع الثقافة الإسلامي الإبداعي الابتكاري التجديدي، يجب أن نثق بأهلية مشروعنا ونتقن عملية الربط بينه وبين ذواتنا الأممية، ولا بد أن نتحرر من الانبهار والإذعان، ونوائم بين الماضي والحاضر، ونتخطى من مهانة التلقي إلى فضاء المبادرة والإبداع، نجاري ولا نتلقى، نكرس الذات الثقافية ونجليها ولا نخفيها، نصحح مناهجنا، نقبل بالتعددية، ونرفض التناحر, إن القماقم الذهنية التي نصفد فيها ثقافتنا بحاجة إلى مراجعة، ولن يتأتى ذلك إلا بحضور الفرائض الغائبة والتي من أهمها:
نقد الذات.
تقويم الأداء.
رسم الخطط بعد النقد والتقويم.
مباشرة الفعل بثقة وقوة ومعرفة.
وتحديات (العولمة) قد تكون في النهاية بمصلحة الثقافة الأصيلة، لأنها تحفز ذويها في مرحلة من مراحل الصحوة على التحصن والمراجعة واستكمال ما ينقص، وبخاصة إذا كانت أصولها قادرة على إثبات الذات والتوفر على التكافؤ والندية، والثقافة العربية ذات أعماق متعددة، ليست لشيء من الحضارات القائمة، فهي تمثل التوازن بين الروح والجسد، وحاجات الدنيا والآخرة، وهي خليط من الوحي الإلهي والفعل الإنساني وعمقها التاريخي والجغرافي يمكنانها من الصمود والأداء، وما تعانيه الأمة من ضعف أمام المستجدات إنما هو عارض في الذات، وليس قائماً في المشروع.
إن خيار (القولمة) أو (العولمة) أو (العوربة) لم يعد من الخيارات السهلة، لا من حيث اتخاذ القرار، ولا من حيث الإجراءات، فالقرارات المصيرية تعني الحياة السوية أو الموت السيىء، والدخول في البنى المتعددة لتقويضها باهظ التكاليف، ومع ذلك فإن هناك أقداراً لا مناص من استقبالها وتحمل ما يترتب عليها من صعوبات، والمفيد أن (العولمة) بكل مجالاتها وبكل ما يتوفر لها من إمكانيات ليست الخيار الوحيد، وليست واحدية المستوى، وقد عالج هذه الفسح الدكتور (منير الحمش) في كتابه (العولمة ليست الخيار الوحيد) حيث أكد نفي الحتمية وواحدية الخيار، وتلك رغبة قد لا تكون ممكنة في ظل الأوضاع المتردية، ودون هذا التطمين يأتي (حازم صاغيّة) في كتابه (وداع العروبة) مؤكداً ضعف الهوية اللغوية والثقافية والدينية في إطار القومية الدستورية، بحيث قلل من أهمية الروابط الثقافية واللغوية والدينية، ولما يستوعب الأصابع الخفية التي كرست الإقليمية، وصنمت الحدود، واعطت مفهوماً للمواطنة يخدم المهيمن، ويهمش اللغة والدين والثقافة المشتركة, فيما تأتي الثقة والتباهي عند (فوكو ياما) الذي قطع بنهاية التاريخ واليأس من ظهور إنسان آخر بعد الحضارة الأمريكية والإنسان الأمريكي في كتابه (نهاية التاريخ) حيث راهن على النظام العالمي الجديد.
وهكذا نعيش الجزر والمد في الآراء والتصورات والرهانات، لنكون أبعد ما نكون عن صياغة مشروع مكتمل الأهلية من أجل مواجهة حضارية تقينا المسخ ولا تحرمنا من التفاعل، وقراءة التحولات الفكرية والثقافية واستبانة حجم التبعية والتلقي والتناحر من أجل الآخر تؤكد أننا غير مؤهلين لمواجهة حدث عالمي ك (العولمة) وفقد التأهيل عارض وليس لازماً.
والمتابع للرهانات على جحاش: الاشتراكية والبعثية والحداثة والبنيوية والقومية والفرويدية والداروينية والعلمانية والوجودية والوضعية وتهافت هذه الرهانات الواحد تلو الآخر يدرك أن الأمة تقاد بأيد عميلة وأدمغة مغسولة ونخب متسطحة منبهرة، يمكّن لها المستفيدون في المشاهد والوسائل الإعلامية، ويحيطونها بغوغائيين يسبقونها بالثناء ويحفظون ساقتها بالهجاء من خلال حركة تشايلية تنافخية.
إن علينا أن نواجه أنفسنا ونحاسبها حساباً عسيراً لأنها هي التي أوهنت العزم وأذهبت الريح، لقد تلاحقت المشاريع منذ رفاعة الطهطاوي وحتى الساعة، ولما نقف على شيء سوى ركام فوضوي متناقض من القول المتسطح، حتى لقد نظر إلينا الآخر كظاهرة صوتية، كما لم يبرهن أي مشروع عن أدنى حد من النجاح، ومع تلاحق الإحباطات والإفلاس لم نسمع أحداً من أصحاب تلك المشاريع اعترف بالهزيمة ولملم أوراقه ورحل تاركا المشهد لرهان آخر, إن هناك مستويات من التداخل في الآراء والتوجهات, والفريضة الغائبة براعة التنبؤ وحسابات المستقبل على هدي من العلم ولغة الأرقام، لقد فقدنا حاسة التنبؤ، وفقدنا إمكانية الرصد الدقيق للتحولات، وفقدنا الذاكرة، وعشنا أبناء لحظتنا الأبدية، نفاجأ بكل شيء ونستسلم لكل شيء, ونتنازع حول كل شيء، وكأن قدرنا ألا نتفق.
|
|
|
|
|