(1)
بدأتُ الصيامبالتقسيط في سن السابعة تقريباً، كنت وقتئذٍ أعيش في كنف جدي رحمه الله في مزرعته شرقي مدينة أبها, كان جدي يحثني على الصيام ما استطعت ، فأقبل عليه تارةً، وأحجم عنه أخرى، تكيفاً مع وضعي الصحي الذي لم يكن يومئذٍ في أحسن احواله، وأذكر في هذا السياق أنني عدت الى المنزل من المزرعة ظهر يوم قائظ من ايام رمضان المبارك بعد جدٍّ ولهو جهيدين، وكانزير الماء أولَ ما وقعت عليه عيناي في ردهة البيت,, وفي غفلة من رقابة الأعين النائمة، ألفيتُ نفسي اتجه صوب ذلكالزير وأطفئ عطشي منه حتى ارتويت، ثم اواصل الصيام الى الليل، وكأن شيئاً لم يكن!
(2)
في الطفولة,, وصدر الصبا ، تبدو لنا امور كثيرة صغيرة ويسيرة ، والسبب في ذلك ان المرء منا في تلك المرحلة البريئة من العمر لم يتعلم بعد اصول اللعبة الحياتية كرّاً وفرّاً، ولذلك,, تمضي الفطرة لا العقل تُسيِّر الكثير من الأقوال والأفعال, واذا كان هذا صحيحاً في المجتمعات الحديثة المعقدة,, فما بالك بمجتمع ريفي فطري كالذي انطلق منه مشوار حياتي!
كنت في تلك السن المبكرةأعرِّف رمضان المبارك بأنه شهر أوّله حرمان من الزاد، وأوسطه حلمٌ بالفرح، وآخره احتفاء بكسوة العيد! ثم مشاركة جدي رحمه الله مباهج عيد القرية، ومرافقته في جولاته سيراً على الأقدام,, أو على متن حماره العتيد العنيد!
***
لم يكن مجتمعنا الريفي وقتئذٍ يعرف السهر في رمضان، لأنه لم تكن هناك وسائل لهوٍ تلهيه,, كانت طقوس الفلاحة توجب علينا جميعاً الاستيقاظ مبكرين في رمضان وفي غيره، وكان افراد الاسرة كلها، بدءاً بجدي الشيخ، وانتهاءً بحفيده الصغير بنيةً وسناً، يشكلون فريق عمل يتقاسم اعضاؤه الوظائف اليومية، بدءاً برعي الاغنام، مروراً بسقيا الزرع، وانتهاءً بخدمة المنزل.
وفي ضوء هذه الصورةالبانورامية لمجتمع ريفي بسيط,, في رقعته وحركته ومعاشه وعدد افراده، لك ان تتصور مقارنةً، مجتمعنا الحضري اليوم,, الذي بات الانتقال من حيٍّ الى حيٍّ في مدينة منه كالرياض أرقاً وصداعاً، خاصة إذا كان الانتقال في ذروة صحوة المدينة ليلاً او نهاراً واشتغال اهلها بتكاليف الحياة!
***
اليوم,, يسير قطار الحياة، بسرعة مذهلة يُخشى من فرط سرعته أن ينسى المرء منا خصوصية هذا الموسم الروحي العظيم وقدسيته وجماله! نعم,, لم يعد مفهوم رمضان عندي قاصراً على حرمان النفس من شهواتها، كما كان الأمر في غابر الايام، ولم يعد ثوب العيد ذروة فرحي وغايته!
باختصار,, تغيرت الحياة,, أساليبَ وغاياتٍ ,, لأننا تغيرنا,, بفعل متغيرات عديدة,, باتت اكثر تعقيداً!
تسألني بعد ذلك: ماالفرق بين رمضان الأمس ورمضان اليوم,, فأقول لك,, كالفرق بين ظمأ اطفأته وأنا صغير بشربة ماء في غفلةٍ من عين,, ولحظةٍ فرح أتوق اليها اليوم كي أطفئ بها ظمأً فرضته نوائب هذا الزمان!
(3)
يشدني الحزن والحنين في رمضان اكثر من سواه الى ذكرى سيدتي الوالدة طيب الله ثراها، فقد اعتدت أن امضي أياماً من عشره الأواخر وعيده السعيد الى جوارها رحمها الله، وكنت أسعد بحديثها، وافرح باصطحابها في نزهات قصيرة قبل الافطار، أو بعد صلاة الفجر، كنت أحدثها وتحدثني عن ذكريات مختارة من الماضي,, معها وبعيداً عنها، وكنت أتعمد ذكر مواقف فيها من الطرافة ما يدخل السرور الى نفسها، فتضحك رحمها الله، وأبتسم أنا فرحاً بضحكها، ثم تختم هي اللقاء بدعاءٍ لي صادرٍ من الأعماق، وكنت أشعر في تلك اللحظة بنشوة فرح يؤطره الحب، وكنت في كل الأحوال انعم بدعائها لي,, الذي لا ينضب له معين, ولذا، اشعر الآن، انني افتقد في رمضان، رغم قدسيتهنكهة عاطفية اثيرة على نفسي ساكنة في وجداني، ممثلة في سيدتي الوالدة، رحمها الله,.
|