أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 23rd December,2000العدد:10313الطبعةالاولـيالسبت 27 ,رمضان 1421

الاخيــرة

مأساة لقاف ,, في القهوة
أنور عبد المجيد الجبرتي
لم أجد أصلاً لإحلال الكاف محل القاف في القهوة، أو في المقاهي، الا فيما ورد، عابراً، في كتاب الطعام في الثقافة العربية للأستاذ نينا جميل , ومع ذلك فإن اغتيال القاف بالكاف ، مؤامرة عفوية تزعمتها الفنانة الشهيرة شويكار عندما كانت تقول إنها تحب، فؤاد المهندس، من كل كلبها، وتعني من كل قلبها, وشويكار كانت سيدة الدلال الركيك الضاحك، ولعلَّ تكرار الالكاف في ركيك، هو مفتاح الدلال الشويكاري الشهير، الذي يمزج بين الأنوثة الممتلئة، والاغراء السمين، وخفة الدم اللذيذة، ومع شويكار تقبل أن تشرب فنجان قهوة، بأي حرف من حروف الأبجدية, والأمر يختلف في بعض المناطق الفلسطينية الفلَّاحية حيث ينطقون قاف القهوة كافاً، ولكنها كافٌ جافة رجولية، لا يسمح الظرف الفلسطيني الحزين، بتدليلها، وتسمينها، او التغزل بها.
وقاف القهوة، موضوع للتآمر، والاهمال، والالتفاف, وباستثناء شمال افريقيا، حيث يُعطون حروف الحلق في الأبجدية العربية كامل الحقوق، وينطقون القاف في القهوة، بكل العدل والإنصاف، فإن هذا الحرف الملتصق اللزج، يبدو عبئاً ثقيلاً على القهوة، نحاول قدر الامكان، الالتفاف حوله، والاحتيال عليه، أو نخدمه مجاملةً، بأطراف شفاهنا، في أحسن الأحوال.
وعندما غنَّت أسمهان، أغنيتها الشهيرة عن الأهوَه وتلاعبت بالألحان والكلمات بين أهوى وأهوَه ، كانت تعبِّر، ببلاغة عن الاتفاق الجماهيري، في مصر، ولبنان، وسوريا، على إعدام القاف وتشييعها ودفنها، أو نفيها، نهائياً، من القهوة، مجاملةً للقراء غير المؤيدين لعقوبة الاعدام.
ولعلَّ القاف ، وهو حرف ثقيل الدم، مظلوم في موقعه النشاز، من مشروب أنثوي شاعري, وأغنية أسمهان الشهيرة هي محاولة متشددة، على إثارة وشرح هذا التناقض، والنشاز، في مواقع الحروف من بعض الكلمات حين تتجاوز معانيها، حروفها الأصلية، فتصبح الحروف عقبة أمام التعبير عنها والشعور تجاهها.
فالقهوة أصبحت مع الزمن، حبا، شغفا ورائحة رومانسية, وعندما يتم ارتشافها في الأمسيات الحالمة، حول المواقد، او عند الشُّرُفات الظليلة، تصبح القاف ضجيجاً وازعاجاً.
وعندما نرتشفها مع عجائزنا المحترمات، ونحن نقدِّم لهن مراسم الإكبار والتوقير، تصبح القاف، عقوقاً، وقلَّة أدب.
وعندما نتذوقها في أركان المقاهي، والمنتديات مع أساتذتنا وشيوخنا وزملائنا، ونحن نناقش مخططات المشروع العربي النهضوي العبقري، والحداثة، والبُنيوية، تكون القاف حرفاً شوارعيّاً، غوغائياً، ثقيلاً، غبياً، غير لائق أو مناسب لحضور منتديات الفكر والثقافة المحترمة.
وكعادتنا، دائماً، فنحن نحتفظ رسميّاً، بالأشياء، وإن كنا نلغيها ونهملها في حقيقة الأمر، ولذلك فالقاف ، موجودة رسميّاً في القهوة، ولم يصدر بيان رسمي بإلغائها، أو التخلص منها، أو إلقائها مع حُثالة البن, ولكن التصميم، والإصرار ظاهران بكل الوضوح، في محاولاتنا، تهميشها، وتخفيفها، أو إبدالها.
وربما كان السر في الهجوم على القاف في القهوة، والتنكيل بها، هو رفقتها لحرفي الهاء والواو ، وهما من حروف العشق، والوجد، والهوى، وهما حرفان، أثيريّان هائمان طائران، مُحلِّقان, والقاف ، كان مصيرها، محتوماً منذ البداية حين فرضت القهوة عليها هذه الرفقة البائسة، وألزمتها مشواراً خاسراً ضائعاً، وسبّبت لها هذا الاحراج، وعرّضتها لمحاولات النفي والاغتيال.
فالقاف تبدو حرفاً، أرضياً، ظاهراً، مقلقلاً، جاهراً، مُجلجلاً، صاخباً، وهو حرف التصاق، ولزاجة, وحرف انسداد واختناق,, وهو حرف الحلق المتحشرج.
والهاء هو حرف الرفيف، والهمس، وحرف الأعماق الخفية، والاعتلاء والارتقاء، والتسابيح، والأذكار, وهو حرف الأنفاس والأطياف، والرؤى الناعسة، والنسائم اللطيفة.
أما الواو فهو حرف الدهشة المستسلمة، والانبهار الطفولي، وهو حرف انفتاح الشِّفاه عند الوصول الى الذُّروة، بعد أن تكون الهاء قد أنهكتها انطباقاً رقيقاً هامساً، وارتقاءً روحيّاً عاشقاً.
أين يكون إذاً موقع القاف المسكينة في هذا العالم العُلوي الراقي الممتد، أثيريّاً، ما بين الهاء والواو .
لقد أنهكت القهوة القاف ، وأحرجتها, لكن، الشكر والتقدير لشويكار التي أعلنتها كافاً ، مستقلة، بتدليل سمين، ثم لأسمهان التي همَّزتها وأطلقتها طائراً محلّقاً في سماء أهوَى .
أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved