| مقـالات
قال أبو عبدالرحمن: هذه اليومية هي الثمرة لكل ما سبق من عناإ حول تمحيص ما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعلم بيقين لا مرية فيه أن أيوب عليه السلام دعا ربه بجمل طلبية جاأ فيها مرة أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، وجاأ فيها مرة أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ,, ومعهودنا من القرآن الكريم انه يقص من الخبر جزأ في موضع، ويقص منه جزأ في موضع آخر,, والله سبحانه يحب العبد اللحوح في دعائه لربه، والرسل والأنبياأ عليهم الصلاة والسلام صفوة الخلق، فهم أتبع لمحبة ربهم بالإلحاح وتنويع الدعاإ.
ونعلم بيقين أنه من ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام، لأن القرآن الكريم قص علينا ذلك، وليس كل نبي من ذرية الخليل عليهم السلام يكون نبياً لبني إسرائيل، فما كان هو عليه السلام ولا إسحاق ولا إسماعيل ولا يعقوب يهوداً ولا نصارا,, ولكن لما تكوَّن شعب اسرائيل من ذرية يعقوب عليه السلام كانوا أمة تابع الله عليهم الأنبياأ والرسل، لأن بني اسرائيل كانوا أمة ماكرة حاقدة هدفها تتبير ما شرعه الله تبارك وتعالى، فعبدوا العجل، وقالوا لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا فتاهوا عقوبة لهم في التيه,, ولم تمسخ أمة لكنه مسخ منهم قردة وخنازير، وفي كل زمن يسلط الله عليهم من يسومهم سوأ العذاب، لذلك كثر منهم الأنبياإ لفساد طويتهم، إذن ليس عندنا يقين بأن أيوب عليه السلام من أنبياإ بني إسرائيل (1) ,, وعندنا يقين بأنه منزه عن إفك أهل الكتاب وحشوية الأخباريين، لأنه نبي كريم,, نعَّم له ربه، ومن مدحه ربه فقد بلغ الغاية من الكرامة، ووصفه ربه بأنه صابر أواب,, ولم يستثن ربنا صبراً من صبر، فهو إذن صابر على طاعة الله، وصابر عن حرمات الله، وصابر على أقدار الله,, ذكره الله بصفة عبودية التشريف (2) في معرض التنعيم له في سورة ص نعم العبد إنه أواب ، وجعل الله قصته ذِكرا للعابدين إيماأ إلى أنه من العابدين كما في سورة الأنبياأ,, والابتلاأ على قدر الإيمان والاحسان، ولهذا كان صفوة الخلق من الرسل والأنبياإ عليهم الصلاة والسلام أكثر ابتلاأ,, ونعلم برجحان أن ابتلاأ الله لأيوب ابتلاأ في النفس والمال لامتحان إيمانه حال الشدة أيكون كحال الرخاإ، إن الله تبارك يبتلي صفوة الخلق الأنبياء والرسل بالخير والشر، ليكون ذلك موعظة لعباده: ان الدنيا دار عمل وابتلاإ، ويعطون لمن أرسلوا إليهم دروساً في القدوة والطاعة، ويحمدون الله عز وجل على كل حال,, لقد أظهر الله من ابتلائه لأيوب أنه صابر أواب,, وهذا يعني أن له عليه السلام بلوغ غاية في الصحة والمال قبل الابتلاإ تقابل بلوغ غايته في المرض والفقر حال الابتلاإ,, يظهر هذا الرجحان من الأندرين اللذين ملأهما الله له ذهباً وفضة، وجراد الذهب الذي خر عليه عقب معافاة الله له,, والله سبحانه آتاه أهله ومثلهم معهم، وعافاه الله من المرض فكان على أحسن ما كان، فهذه أيضاً مضاعفة في الصحة، فالسياق يوحي بأن هذا الذهب والفضة مضاعفة في المال,, ونعلم بيقين أن ابتلاأ الله له بعد النبوة، لأن زوجته سألت عنه وهي تحسبه في حال المرض بقولها: هل رأيت نبي الله هذا المبتلا؟,, كما أن الله قص خبره في سورتي الأنبياإ وص في سياق الرسل والأنبياإ الذين ذكر عنهم أخباراً حال نبوتهم عليهم الصلاة والسلام,, ونعلم بيقين من حديث أنس رضي الله عنه أن مدة مرضه عليه السلام ثمانية عشر عاماً كانت كفيلة بذهاب وفره، واليأس منه، لهذا لم يبق من يواصله غير رجلين وزوجته,, ونعلم بيقين من حال النبوة، ومدلول حديث أنس أنه كان ينفق المال في وجوه البر، فيكفر عن المتنازعين كراهية أن يذكر الله إلا في حق,, ونعلم بيقين أن مس الشيطان لأيوب لا يتجاوز الوسوسة بالتيئيس من رحمة الله ,, فأما أيوب عليه السلام فكان على ثقة من رحمة ربه، وأن أجره مذخور له، فلم ينل منه عدو الله في دينه بوسوسته,, وأما الناس فربما تمكن في قلوبهم اليأس والتشكك في نبيهم حتى قال أحد الرجلين المخلصين من اخوانه الذين لم يبق من يواصله غيرهما: أتعلم والله: لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد,, فتعبه عليه السلام شديد، لامعان إبليس في الوسوسة، وانكفاإ الناس عنه متشككين,, وانكفاأ المجتمع ليس بالأمر السهل على النفس,, والعذاب المذكور في سورة ص هو شدة الألم من جراإ مرضه، والضر المذكور في سورة الأنبياإ شامل لما ذكر في سورة ص من النصب والعذاب، وشامل لما فدح به من مال وانكفاإ مجتمع (3) ,, وأما تفريق بعض اللغويين بأن الضر بالضم في النفس، والضر بالفتح في المال: فأمر غير محقق، بل الضم لمحض الاسمية، والفتح للمصدر الذي يستعمل اسما، فالضم أبلغ، لأن المصدر وصف عارض، والأسمية ذات لزوم.
ونعلم بيقين أن الماأ الذي ذكره الله في سورة ص علاج وشفاأ لأيوب اغتسالاً وشراباً، لأن الله ذكره مغتسلاً وشراباً، وذكره جواباً لدعاإ أيوب عليه السلام وهو في حال مرض عظم ضره، ولأن سياق حديث أنس بيَّن أنه شفي بعد ذلك، ولأن الله قال عقب ذلك وآتيناه أهله ومثلهم معهم ، فكانت التحلية بعد التخلية، ولأن الله نص في سورة الأنبياإ عقب دعاإ أيوب بأن الله استجاب له وكشف ما به من ضر، ثم قال: وآتيناه أهله ومثلهم معهم ,, والأهل تشمل الزوجة والولد، وليس في الأحاديث الصحيحة ولا في القرآن الكريم أي شيإ من هذه الإسرائيليات: عن ميت أحياه الله من ولده، أو اعادة زوجته بكراً,, إلخ، بل يدل السياق على شتات من مجتمعه واخوانه وأهله سوى زوجته، ثم عافاه الله وأغناه، فكان معنى الهبة رد شاردهم، واعادته إلى زوجته بحسن الحال، لتكون سكناً ومتاعاً، فالله وهبهم له بالأسباب التي أعاده بها إليهم، وبرد شاردهم إليه,, وأما ومثلهم معهم فغير بعيد التصور، فهذا يكون بالله ثم بزواج جديد، وولد مستجد.
ولا يحل لنا أن نقول في كتاب الله بغير علم، فنحدد أي حادثة رجماً بالغيب أو اتباعاً للإسرائيليات أقسم عليها نبي الله أيوب فجعل الله له المخرج بالضرب بالضغث,, ولكننا لا نرجم بالغيب اذا دققنا في السياق وروابطه اتباعاً لربنا في أمره لنا بتدبر كتابه، والاحتفاإ بفضيلة ما امتن الله به على خاصة العلماإ من الاستنباط ورفع الدرجة,, وبالفقه في السياق يترجح لنا أن أيوب عليه السلام أقسم على ضرب زوجته,, أما الضرب، فلأن الله قال عن الضغث فأضرب به ، وأما اليمين، فلأن الله قال ولا تحنث ، فكان الضرب لعدم الحنث براً، إذن المقسم عليه ضرب,, وأما الأهل فلأنه لم يبق معه ذا صلة غير زوجته كما في حديث أنس رضي الله عنه، وهي التي يملك ضربها، لأنه ولي أمرها، وكان دعاأه ربه بعد أن بلغ به الضر غايته، وكان تلك الحالة وحيداً ليس عنده أحد، بدليل حديث أنس حيث لم تأت إلا بعد أن شفي، فلعله حصل منها آخر الأمر تقصير في الخدمة والمعاودة، وربما كان البر باليمين سبب فرقة، فمن الله عليه بالتخفيف بضربه بالضغث، فكان ذلك من معاني ووهبنا له أهله .
قال أبو عبدالرحمن: هذا رجحان بقرائن السياق للنصوص الشرعية جميعها، وليس في النتيجة معارضة لنص صحيح، أو انتهاأ إلى أمر منكر، وهو وفق القانون الشرعي في الاجتهاد.
وقد حدثني والدي عمر رحمه الله: أنه كان في سنام في خدمة هلل أم عمر أبا العلاإ رحمهم الله، وكان عمر أبو العلاإ صبياً بدرت منه مخالفة فأقسمت هلل لتضربنه مأة جلدة، فلما جاأت حال الفكرة استفتت القاضي في المخرج وكان القاضي إن لم تخني الذاكرة الشيخ محمد الشاوي رحمه الله ، فأفتاها بضربه بمأة شمراخ من قنوٍ بين الرطب واليابس,, فقالت: جزاك الله خيراً، ووسع الله عليك,, فطرحه المماليك لها وبرت بيمينها.
قال أبو عبدالرحمن: هذه المسألة فقهية أطال حولها العلماأ كابن قيم الجوزية، وهي مستنبطة من قصة أيوب عليه السلام، ولست الآن بمتفرغ لتحقيقها، وإنما أقرر الأصل في مسألة أيوب عليه السلام، فأقول: إن الأصل أن يبر المقسم بيمينه، ولا يحتال بطلب الأدنا، فإذا كان يعلم مسبقاً أن مأة جلدة مثلاً يُجزأُ عنها ضربة واحدة بضغث ضعيف مجمعٍ من مأة عويد خفيف: كان ذلك عزماً مسبقاً على بخس اليمين,, والأصل البر بالمقسم على أدائه كما وقع به القسم,, ولا يُخرج عن هذا الأصل إلا بدليل,, أما في قصة أيوب عليه السلام فلم يقسم على أمر وفي نيته أن يحتال بالبر بما هو أخف بكثير من المقسم على أدائه,, ولكن صاحب الحق وهو ربنا سبحانه وهب لأيوب حقه في القسم، فخفف عليه من غير احتيال مسبق من أيوب، فالخصوصية هي الأرجح حتى يقوم برهان على خلافها,, ولا عجب من كون ذلك خصوصية لما أسلفته، وليست هذه الخصوصية بأعجب من الآيات الكونية التي اختصه بها من الماإ البارد شفاأً في الاغتسال والشرب، ومن إمطار الذهب والفضة، ومن جراد الذهب!!.
ومعنى قولي: الأصل في قصة أيوب عليه السلام كذا: أن قصة أيوب ليست دليلاً على أن الحنث يرتفع بالضرب بالضغث، بل لابد من دليل من الخارج.
قال أبو عبدالرحمن: ولو لم تكن قصة أيوب عليه السلام على الخصوصية لكان الأصل: أن ذلك شرعاً لنا حتى يقوم دليل من خارج، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم مأمور بالاقتداإ بإخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام حتى يُخصَّص من هديهم بشرع خاص، ونحن مأمورون بالاقتداإ به (4) .
وقد أسلفت أن ما أصاب أيوب عليه السلام إبتلاأٌ كان بضد نعمة سابقة، وأن الله أعقب ذلك مضاعفة ما كان عليه من حسن الحال قبل ذلك,, ومن زعم ان ما حصل لأيوب عليه السلام كان عقوبة على ذنب فقد أعظم الفرية، ولا شبهة له إلا الإسرائيليات الكاذبة، وفساد الاستنباط من قوله تعالى عن أيوب إني مسني الشيطان ، وفساد الاستنباط من قول أحد الرجلين: أتعلم والله: لقد أذنب أيوب (5) .
قال أبو عبدالرحمن: أما الإسرائيليات فقد أسلفت أنه ليس عند أهل الكتاب خبر صحيح عن تفاصيل قصة أيوب، وإنما عندهم ما تقشعر منه الجلود (6) .
وأما مس الشيطان فهو وسوسته، وهو مس مصاحب للمرض وبسببه,, لا قبله، ولا بسبب ذنبه.
وأما الرجل فما قال عن علم، وإنما علل عقيدته بقوله: ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله!!.
ومن الظنون بغير علم الزعم بأن مرض أيوب التهاب جلدي عقبولي الشكل يُبرِأُه الاغتسال (7) بإذن الله.
قال أبو عبدالرحمن: هذا لا يُعلم إلا بوحي، ولا وحي بذلك,, والموضوع ليس استشفاأً طبياً بأسباب علاج مجربة,, وإنما هو آية من آيات الله جعل سببها إعجازاً منه سبحانه,, واعلموا أن دعاأ أيوب عليه السلام ربَّه بعد ثمانية عشر عاما لا ينافي الصبر، بل لو دعا ربه اول لحظة,, بل المرجح أنه في دعاإٍ دائم، فالصبر يلازم الدعاإ ولا يباينه، ولكن دعاأه الأخير كان عن لهفة بعد أن انقطعت به الأسباب، لهذا لا أطيل بمناقشة ما ورد في كتب التفسير,, وأشار أبو علي الطبرسي بقوله: ولم يشك الألم الذي كان من أمر الله تعالى (8) .
قال أبو عبدالرحمن: التشكي غير الدعاإ، ولهذا قال سبحانه: فاستجبنا له .
وورد هذا الحديث عن الزهري مرسلاً موافقاً لنص حديث أنس: هو من رواية الزهري عن أنس رضي الله عنهما بيقين، ويدل إسناده تارة وإرساله تارة على أنه مستفيض عند معاصري الزهري، فهو يحدث به أحياناً بالإرسال مكتفياً باستفاضته,, وهكذا ما صح عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم موافقاً لحديث أنس أو مضيفاً إليه مما ليس في هذه الروايات المعروفة من الإسرائيليات: فله حكم المرفوع,, والله المستعان.
* الحواشي:
(1) قال الإمام أبو محمد ابن حزم في الفصل 1/179 نقلاً عن العيسوية من النصارى: إن أيوب عليه السلام نبي لبني عيص أي عيص بن إسحاق عليه السلام ,, ومن يجعلونه عربياً يزعمون أنه عند بني عوص بن إرم بن سام بن نوح، وأن موسى عليه السلام نقل سفره من العربية إلى العبرية, انظر الإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياإ عليهم السلام للدكتور ف عبدالرحيم ص55 56 طبع دار القلم بدمشق طبعتهم الأولى سنة 1413ه,, وقال أبو عبدالرحمن: مصادرهم الاستنتاج من سفر أيوب، والقرآن الكريم قاطع بأنه من ذرية إبراهيم، ولعله يوجد في التاريخ القديم المحقق ما يعطي أثارة من علم، وقد أهملت مصادر عديدة مثل الموسوعات ودوائر المعارف، لأن غرضي صحاح النصوص من ديننا الحنيف.
(2) وهي اتباع شرع الله,, أما الخضوع لقضاإ الله الكوني فذلك عبودية إذلال الكافر وقهره، لأنه لا مفر له من كون الله وقضائه فيه.
(3) قال الفخر الرازي في تفسيره م9 ج26 ص396: واعلم أنه قد كان حصل عنده نوعان من المكروه: الغم الشديد بسبب زوال الخيرات وحصول المكروه، والألم الشديد في الجسم,, ولما حصل هذان النوعان لا جرم ذكر الله تعالى لفظين، وهما: النُّصب، والعذاب .
(4) انظر عن هذه المسألة أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص 370ه 3/382 383 ط دار الفكر، وأحكام القرآن للقاضي أبي بكر ابن العربي 468 543 4/1651 1652 طبع دار المعرفة ببيروت تحقيق علي البجاوي، وأحكام القرآن للكيا الهراسي 504ه 4/361، وقصص الأنبياإ ومناقب القبائل من كتاب التوضيح لشرح الجامع الصحيح، وهو كتاب نفيس لابن الملقن 804ه ص158 159 نشر المكتبة المكية، ومُأسسة الريان الطبعة الأُولا عام 1418ه تحقيق أحمد حاج محمد عثمان، وتفسير آيات الأحكام لمحمد علي السايس 2/64 - 65 ط دار الكتب العلمية طبعتهم الأولى عام 1418ه.
(5) انظر عن هذا كتاب تنزيه الأنبياإ لأبي القاسم علي بن الحسين الموسوي الشريف المرتضى 436ه ص90 95، وإعلام المسلمين بعصمة النبيين لإسحاق بن عقيل 1330 1415ه ص56 دار ابن حزم الطبعة الأُولا عام 1416ه.
(6) انظر على سبيل المثال كتاب الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير للدكتور محمد أبو شهبة ص391 392.
(7) انظر هذه الدعوى بكتاب قصص الأنبياإ والتاريخ للدكتور رشدي البدراوي 3/598 طُبع عام 1997م عن كتاب جلدك للدكتور محمد الظواهري ص64.
(8) مجمع البيان في تفسير القرآن 8/364 نشر مأسسة الأعلمي ببيروت طبعتهم الأُولا عام 1415ه.
|
|
|
|
|