وتجمع العرب الجبان على جُبناء، تشبيها له بفعيل في العدَّة والزيادة، كشريف وشُرفاء والأنثى: جبانة، وجَبان أيضا، كحَصان، ورَزان, وأجبن فلان فلاناً، أي وجده جبانا بالفعل، أو حسبه كذلك، قال عمرو بن معد يكرب وقد زار رئيس بني سليم فأعطاه عشرين ألف درهم، وسيفاً، وفرساً، وغلاماً خبّازا، وثياباً، وطيباً قال : لله دركم يا بني سليم، قاتلتُها فما أجبنتُها، وسألتُها فما أبخلتُها، وهاجيتُها فما أفحمتُها، ويقولون: جبَّنتُ فلاناً، أي نسبته الى الجبن، ومثلها: بخّلته، وجهّلته، أي نسبته للبخل والجهل.
وفي الحديث: ان النبي صلى الله عليه وسلم احتضن احد ابني ابنته وهو يقول: والله انكم لتُّجبَّنون، وتُبخَّلون، وتجهَّلون، وانكم لمن ريحان الله .
وللشاعر غازي القصيبي قصيدة نشرت بعنوان: يا فدى ناظريك مهداة الى روح الطفل محمد الدّرة، جعل فيها كل الجبناء في الامة الاسلامية والعالم العربي فداءً لهذا الطفل، اذ لا جدوى من قومنا الجبناء، ولا قيمة لهم في ميزان الحياة اذا لم يطردوا من داخلهم كل عوامل الخوف والجبن، يقول شاعرنا القصيبي:
هدراً مُتَّ يا صغيري محمد
هدراً عمرك الصبيُّ تبدّد
يا فدى ناظريك كلّ زعيم
حظه في الوغى: أدان وندّد
يا فدى ناظريك كل جبانٍ
راح من ألف فرسخ يتوعّد
يا فدى ناظريك كل بيانٍ
بمعاني هواننا يتوقّد
يا فدى ناظريك كل يراعٍ
صحفيّ على الجرائد عربد
ويروح القصيبي يفدي الطفل الفلسطيني محمد الدرّة وكل أطفال فلسطين من أطفال الحجارة: درّة لا تقدّر بثمن، ولعل من حق الدرّة علينا ان نواصل قراءة قصيدة كتبها فيه شاعر مكتمل الوطنية من المملكة العربية السعودية:
يا فدى ناظريك كل مذيع
في سكون الأثير أرغى، وأزبد
يا فدى ناظريك كل حكيم
فيلسوفٍ بثاقب الرأي أنجد
يا فدى ناظريك كل اجتماع
ليس فيه سوى خضوع يجدد
يا فدى ناظريك ناظم هذا ال
قول شعر المناسبات المقدد
ألف مليون مسلم لو صرخنا
كلنا، زمجَرَ الفضاء وأرعد
ألف مليون مسلم، لو بكينا
كلُّنا، ما جت السيول على اللد
قد فهمنا، تهوُّدَ البعض منّا
أوَ لم يبق معشَرٌ ماتهوّد
والجبناء في الرأي أو في الحرب يلجأون دائما الى تبرير مواقفهم، ويلبسونها ثيابا من التعقل، وحسن قراءة العواقب، ويرددون الِحكم التي تعفيهم في نظرهم من تحمل مسؤولياتهم، ويتدثّرون بقصص أبي زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن، وبكل قصص البطولة العالمية على حد قول شاعر تميم في قوم الأخطل:
والتغلبي اذا تنحنح للقِرى
حكّ استه، وتمثّل الامثالا
ولكن المواقف تفضحهم وتكشف عوارهم، ويظل الضعف والجبن من الصفات التي ينفر منها الناس ويتبرأون منها، ولمثل هذا قال النابغة:
ولا تجعلِنّي كامرىء ليس همّه
كهمّي ولا يُغني غنائي ومشهدي
بطيء الى الجُلَّى سريع الى الخنا
ذليل، بإجماع الرجال ملهَّد
الى ان يقول:
ولكن نَفَى عني الرجال جراءتي
عليهم، وإقدامي وصدقي ومحتدي
وقد اعتاد كثير من الدارسين لحسان بن ثابت وشعره ان يصموه بصفة الجبن، وقد ناقشت ذلك في كتابي: المدينة في العصر الجاهلي الحياة الأدبية ص 512 516 وأثبت انه كان من الشجعان، اذ كان رضي الله عنه شجاعَ الكلمة، يدافع عن أحساب قومه في الجاهلية، وينافح عن الرسول ودين الله في الاسلام، وصاحب الكلمة مسؤول كصاحب السلاح، وكم تعرّض قائل كلمة للقتل من أعدائه، فلو كان حسان جبان القلب لوسعه السكوت، ولجبن عن الكلام كما جبن عن القتال، وقد قدم الحارث بن ظالم من ديار قومه في العصر الجاهلي، الى يثرب، بقصد قتل الشاعر عمرو بن الاطنابة، لشعر قاله عمرو فيه حين قتل الحارثُ خالدَ بن جعفر، صديق عمرو، وكان من امرهما ما كان.
وقد أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف لأشعاره البذيئة ضد المسلمين، وان رجلا يرى نتيجة مسؤولية الكلمة أمامه ماثلة، ويعرف عليها شواهد من حياة قومه، ثم يتحمل هذه المسؤولية لا يُعقل ان يوصف بالجبن، بل هو شجاع قوي القلب في ميدانه المتناسب مع امكاناته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
فاذا تقرر لدينا من خلال هذا الكلام السابق ان حسّاناً لم يكن جباناً في يوم من الايام، شعرنا بالخطأ في قول أبي العلاء المعري الذي أساء فيه لحسّان حين قال:
وما نفس حسّان الذي شاع جبنه
بأسلم من نفس الكميِّ المُخالسِ
المخالس : السالب عدوه وعلمنا ان حسّان في حاجة الى الانصاف ورد الاعتبار، ولعل شيوع هذه الصفة عنه، كان جزاءً دنيوياً من الله على تورّطه في حديث الافك، فانه كان حديثا عظيما، رغم توبته منه، واعترافه بتسرّعه فيه, ومما قاله رضي الله عنه وفق شجاعته قوله: