أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 21st December,2000العدد:10311الطبعةالاولـيالخميس 25 ,رمضان 1421

الثقافية

من أسرار خلود الشعر
عبدالله سعد اللحيدان
منذ أبصر الشعر النور ثم لثغ حروفه الأولى، وحتى الآن، ومريدوه يدعون أنه الدليل إلى المستقبل والوحيد الذي يستطيع استشرافه وقراءة نياته وانه أكثر وأشد صدقاً واخلاصاً وحسن نية ممّا يقوله الفلاسفة والعرّافون ومدّعو المعرفة الخاصة والمميزة، حتى وان حاول بعض من لا يحبونه ولا يستهويهم نفي صفة الرؤيوية والحدس والالهام المستقبلي عنه، لأن هذه السمات الملازمة له تظهر في النماذج الحقيقية الأصيلة منه، أما النماذج المقلدة والمزورة والملفقة فلا يمكن أن ينظر إليها كمعيار أو مثال على نفي هذه الصفات أو بعضها عنه,
الشعر العظيم، وفي كل العصور، يحمل هذه السمات ويجسدها وبمستويات مختلفة تستغرق نصوصاً كاملة أحياناً وفي اشارات ورموز وايحاءات بعيدة وربما غامضة في نصوص تم تصنيفها على انها كلاسيكية وصفية تسجيلية أو نظمية، وحتى في النصوص التي تتبنى منهجاً فكرياً أو عقلياً أو تعليمياً لأنها، وبما أنها شعر حقيقي، لا تستطيع اقصاء الجانب التخييلي أو ما يتجسد عنه أو ما يبدو وما لا يبدو منه الا أطيافاً في مكان ما من خلفية المشهد النصي، واضحاً أو غامضاً، أو لا يكاد يُرى، حتى وفي العصور التي حاولت فيها بعض القوى السياسية أو الفكرية أو الاجتماعية اقصاء الشعر أو تهميشه أو التقليل من شأنه، تلك العصور التي قرر فيها الشعر ان يصمت قليلاً وينتظر أو يتقي الأخطار المحيطة به ويحني أغصانه قليلاً ريثما تمر الرياح الطاغية، ليعود مجدداً، وفي كل عصر ومكان، متجدداً مضاعفاً إمكاناته وطاقاته وقدراته ووسائله وأساليبه واحساسه بمسؤولياته ومعرفته بحقوقه وواجباته مضيفاً الى ذلك كله خبرات انسانية وفنية ابداعية جديدة تعينه على مواصلة خط سيره والقيام بدور البوصلة التي لا تكتفي بتحديد الجهات بل وتحاول قراءة ما خلف هذه الجهات وما يكمن خلف هذا الخلف من شر أو خير للإنسانية التي أثبتت انها وعلى اختلاف العصور والأمكنة تحتاج الى الشعر أكثر من حاجتها الى المنطق أو العقل بجفافهما وبرودتهما وانغلاقهما وقيودهما التي لا تتيح للانسان الحركة والتقدم أو ممارسة الحريات والأحلام ولا تمنحه ما يمنحه الشعر من قوة دافعة الى الحماس والرغبة في التغيير واخضاع كل شيء للشك والمساءلة وحاجة الانسانية المتواصلة للشعر بما هو يمنحها من اشباعات روحية ومعنوية وبما يثير لديها من مشاعر وعواطف وقيم وانفعالات، حيث ان العقل والمنطق والتعليمات والأفكار تفي بالجانب المادي والحسي، والحاجات البيولوجية تفي بها الطبيعة، بينما يقوم الشعر بتحقيق الجانب الأهم من هذه الحاجات وهو الجانب المعنوي الروحي والذي لا يمكن للطبيعة الانسانية أن تحقق وجودها الحقيقي والحر والكامل بدونه، فيما هو اللغة الوحيدة المشتركة بين الناس على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وقناعاتهم ولغاتهم، فبالشعر يتجلى المظهر الرائع البريء للوحدة الانسانية,
والآن، وقد بدأت النتائج المرعبة لعصر العلم الحديث وبدأ عمل الانسان الآلي والحاسبات الآلية وتقنية المعلومات والاتصالات والانترنت وآلاف التجارب التي تجرى في العالم المتقدم، والتي تحاول الاتجاه عكس الانسان وفي سباق شديد معه، فهل يمكن القول ببداية عصر نهاية الشعر أو تهميشه والى ان يصبح تحفة فنية قديمة ونادرة وفي زاوية من زوايا متحف التاريخ يأتي إليه أبناء المستقبل ومن يهتم منهم بالتاريخ فقط ليلقوا عليه نظرات اشفاق فيما يهزون رؤوسهم في اعجاب ساخر من سخافات الآباء وقدراتهم على اضاعة أوقاتهم فيما لا يقدم سوى متعة مؤقتة ولفئة قليلة من الناس,
هناك نقطتان في غاية الأهمية ويجب الاشارة إليهما، الأولى: ان العلم والتقنية، ومهما تقدما وتعلقا بالمستقبل وانتسبا إليه، لا يملكان سوى الوصول الى نتائج أخذت حيثياتها من الماضي والحاضر، أي أنهما يقرآن الماضي والحاضر فقط، وليخرجا بنتائج محددة ودقيقة ولا تزيد أو تنقص عن امكانية هذه الحيثيات ولا يمكن أن يخرجا بنتيجة هي مزيج جديد لأي عناصر سابقة ويحتوي على عناصر جديدة في الآن نفسه، بل إن أي نتيجة يصلان إليها يمكن تفكيكها واعادتها الى عناصر الماضي والحاضر المؤلفة لها، عدا عن انه لا علاقة للعلم والتقنية بالرؤية الى المستقبل أو استشرافه أو القيام بشيء ولو يسير من أدوار الشعر الروحية في الحدس والالهام والايحاء والاثارة والتغيير، والى آخر ما يمكن أن يقوم به الشعر من أدوار انسانية، مع الانتباه الى انه، وعلى مر العصور وفي مختلف الأمكنة كان الشعر وما يزال وسيلة الاتصال الوجداني الانسانية الوحيدة والمشتركة بين بني الانسان على الرغم من السمات الخاصة التي يتميز بها كل تراث أو هوية أو قومية أو فكر أو قناعات في المجتمعات الانسانية المختلفة ومنذ فجر التاريخ حتى الآن,
النقطة الثانية: ان الانسان، والى ان تنتهي حياته نهائياً على هذه الأرض، سيبقى بحاجة ماسة الى اشباع الجانب الانساني الروحي فيه وهو الجانب الأهم والأعظم في وجوده البيولوجي والطبيعي والروحي، وسيبقى هذا الجانب بحاجة الى التأملات والخيال والحدس والاستشراف والأحلام والى تغذية واشباع رغباته الفنية والجمالية والوجدانية والى من يحاوره في نفسه ووجوده وحاجاته وظروفه وزمانه ومكانه وواقعه وقناعاته وما يقع ضمن هذه الأطر من جدليات لا نهاية لكثرتها وتعقيدها، بل ويكشف له عن جوانب لا يمكن الوصول إليها الا بالشعر الذي يذهب في سفره الداخلي الخارجي في الآن نفسه الى ما هو أبعد من الأعماق وأشد التباساً من أغوار عالم اللاوعي ومكبوتاته، وسعياً الى تخليص الذات من أنانيتها الفردية وصهرها في بوتقة الوجدان الاجتماعي الانساني المشترك، وفي تجارب شعرية متكاملة تسعى الى تجسيد تجربة كل انسان,
وكلما واصل العلم والفكر والعقل والمال والسلطة والأطماع اجتياح المناطق الانسانية، زادت حاجة الانسان للشعر وما يحمله من اخلاص وخلاص,
عدا عن ان الشعر هو من قاد ويقود، ومنذ فجر التاريخ، وحتى الآن، كل فتوحات الفلسفة والمنطق والعلوم التقنية والانسانية، بل هو سبب وجودها دائماً، ولكن في تكامل انساني معها، لا يحارب ولا يلغي منها ما فيه خير ونفع للانسان ومستقبل الانسانية,

أعلـىالصفحةرجوع





















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved