أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 21st December,2000العدد:10311الطبعةالاولـيالخميس 25 ,رمضان 1421

الثقافية

القنبلة رطبة
تهاني الغريبي
لا تنفك يداه تحومان حول رأسه في محاولة للوصول إلى محتواه,, تارة يحكه وتارة يضمه بين كفيه,, هذا الرأس أشبه بصندوق يضم قنبلة مرزوعة لن ينزع فتيلها إلا إذا تعلم هذا الدرس الكبير بحجم الكون.
رفع بصره إلى السماء,, صفحة سوداء,, صوت الصمت لا يشقه سوى صوت تفكيره الذي يعلو,, فكر,, يده اليمنى على رأسه,, استبدلها بيده اليسرى بانتظار الحل,, يومض المستقبل ويختفي أسطراً من برق,, تلح وتطلب قراءتها,, القلق الفتاك هو سلاح الكون في دفعنا للتطفل على الغيب,, والماضي يقظ,, والحاضر صامت يتمنع من الإجابة عن الأسئلة,.
نظر في صفحة الماء,, لم تكن كدرة بالدرجة الكافية لتحجب عنه صورة شعره المتطاير من جراء عبثه المتواصل برأسه,, تك تك تك, ليته يكف,, حاول أن يتبين شكل عينيه في الماء,, كأنما تراءى له فمان صغيران في مكانيهما!! تذكر أن عينيه تلتهمان كل شيء,, الجمال,, القبح,, الأحلام,.
إلى أي حد سيتغير شكله بعد؟ هل سيكون بمقدروه التعرف على نفسه؟ وهو في أقصى تركيزه سقطت حشرة باهتة على الماء ,, فجأة,, كأن يدا خفية رمت بها تجاهه يتلاشى الانعكاس تدريجيا,, تنتشر الدوائر,, بل تستفحل,, مرة أخرى مر بيده بعصبية وعفوية على جبينه فقد تذكر مشكلته المزمنة مع الدوائر,, مذ كان صغيراً, لاحظ أن العالم يعتمد استراتيجية الدوائر,, الأيام تدور ,, الدنيا دوارة,, دورة الحياة,, الدورة الدموية,, وفيروز تغني,, طريق النحل الطاير,, فوق الضو المكسور,, بيصير يرسم دواير,, يكتب عالهوا سطور,.
والشمس تدور,, ورؤوسنا تدور,, الكون نظام من تروس ورؤوس وأيام,, ساعة عظيمة تدق باتجاه الآخرة.
لطالما حاول ترويض عقله,, (حين كانت لديه القوة) ألا يثير نقع الأسئلة التي سألها السابقون وستشغل اللاحقين,, أمن الخطأ أن نتعلم نفس الدروس الموروثة مرة أخرى ولكن بطريقتنا الخاصة؟ ,, أن نرفض الحقائق ونعتبرها فرضيات لنسلم بها في النهاية؟! هذا الرأس العنيد!! هذا التمرد أشبه بحماقات الأطفال.
ابتسم فجأة,, ها هو ينساق خلف افكاره مرة أخرى,, شأنه شأن المثقفين يروق له أن يعتبر نفسه مثقفاً,, يقول أنه مهتم بالناس ويثرثر على مسامع الناس أنه يعيش من أجل الناس ولكن الناس لا تهتم ولا تسمع ولا تعيش,, كل هذا الضجيج,, لم ينتبه أنه مر بكفيه على رأسه ثلاث مرات بقوة,, ثلاث مرات,, أربعة تأتي بعد ثلاثة,,الأرقام,, الحمد لله أن عقله ليس رياضياً وإلا تضاعفت المشكلة,, حصة الرياضيات كانت ضمن قائمة طويلة بالأمور التي تصيبه بالصداع,, الأعداد,, عدد النظريات يفوق عدد البراهين,, نتكلم عن الثوابت ونغفل أن المتغيرات هي القاعدة,, تذكر انه قطع وعداً على نفسه ألا يخطو بهذا الاتجاه,, فبإمكانه أن يخوض في مستنقعات أقل عمقاً,,كالمبادئ مثلاً,, المبادئ أمرها محسوم,, فهي تربط حول عنقه أنشوطة مطاطية,, تركله ليبتعد ثم يرتد بقوة ليتلقى ركلة أخرى شرسة ترسله بعيداً,.
الفلسفة لعبة مسلية ما دام الزمن يمر,,فهو لا بد أن يمر في النهاية,, بشكل ما,, وبطريقة ما,, هناك ألعاب مسلية أخرى كالحدس مثلا,, والفراسة,, والتأمل,, طرق متنوعة لدغدغة المستقبل,, هذه هي ألعاب الكبار,, ألعاب خطرة,, بالرغم من أنه حاول أن يبتعد عن المدينة وفي مكان شبه ناء (لا يمكن له أن ينأى بشكل كاف) إلا أنه لا يزال يسمع الضجيج المنبعث,, ملايين العقول والتروس وحك الرؤوس ,, بين حرارة الشمس وحرارة الارض تصبح هذه العقول هامبرجر بعضها موبوء بجنون البشر, تذكر بعض المحظوظين الذين يعرفهم جيداً ,,عقولهم مثل بيوت جداتنا,, أثاثها قليل ومرتب,, لن تفقد شيئاً في بيوت كهذه,, ثم إن ترتيب الأفكار و منطقتها هي محاولة بديهية لقول ما هو بديهي على نحو غير بديهي,, ماذا؟ أحس بنبض رتيب في صدغه الأيسر,, الرتابة,, كم هي بغيضة,, سجان ذو قبضة حديدية,, قد تتخللها العلامات والدلالات والرسائل المبطنة,, كلها أرواح شريرة تطارد من تظهر له,, تجبره على ربطها بقواعد ومفاهيم,, كأن القاعدة هي مثواها الأخير,, كانت فكرة سيئة حين قرر أن يستبدل رئتيه بدماغين أزرقين يقاتلان من أجل التنفس!!
أغمض عينيه عله يسمح صوت شجرة أو ساقية أو عصفور,,فلطمته ريح سموم على وجهه, لم يفتح عينيه فتلك اللطمة لم تكن مباغتة، بل كانت متوقعة,, استمر يتأمل الظلمة وهو مغمض العينين,, الظلام,, لن يذكره بالحيرة,, حك رأسه,, لماذا يربطون النور بالحقيقة؟؟ الحقيقة هي الحقيقة في الظلام والنور,, ولكنه لم يستطع أن يفتح عينيه,, وسيستمر بعادته السيئة يهرش رأسه!
تحت قدميه كان شعره يتساقط بغزارة.
paperblade@hotmail.com

أعلـىالصفحةرجوع





















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved