| الاقتصادية
إن الصوم مدرسة فريدة تعالج قضية التقوى ومعالجة نفسية ميدانية، قال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة 183.
والصوم مدرسة روحية عظيمة القدر، حيث يتجلى خلق الصبر في سلوك الصائم، فلا يجزع ولا يقلق ولا يقنط من رحمة ربه.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله (المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه سعادتها ونعيمها وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الظمأ والجوع من حدتها، ويذكرِّها بحال الأكباد الجائعة من المساكين وتضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب).
والغزالي رحمه الله يقول: الصيام زكاة للنفس ورياضة للجسم وداع للبرِّ فهو للانسان وقاية، وللجماعة صيانة، في جوع الجسم صفاء القلب وايقاد القريحة وانفاذ البصيرة.
وغير خاف ان الصوم يعطي الجهاز الهضمي راحة تامة، ويتيح للجسم الفرصة للتخلص من السموم والفضلات المتراكمة.
ورد عن بعض السلف قوله رحمه الله: لقد خصّ الله عز وجل شهر الصيام شهر رمضان بخصائص عديدة منها: أنه سبحانه وتعالى جعله شهراً مباركاً، وجعله شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وجعل فيه ليلة خير من الف شهر، وجعل صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، وهو شهر المواساة وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.
وفي الصوم تتجلى المشاركة التامة بين الجميع الغني والفقير، فالجميع يشعر بألم الجوع، ومرارة الحرمان.
وبلغة الاقتصاديين فان هناك علاقة طردية بين شهر الصوم والاستهلاك الشره, والمرء يدهش من هذا النهم الاستهلاكي الذي يستشري لدى الناس عامة في هذا الشهر دون مبرر منطقي.
فالجميع يركض نحو دائرة الاستهلاك المفرط، والاستعداد للاستهلاك في رمضان يبدأ مبكراً مصحوباً بآلة رهيبة من الدعاية والاعلانات والمهرجانات التسويقية التي تحاصر الأسرة في كل مكان وزمان ومن خلال أكثر من وسيلة.
فالزوجة تضغط باتجاه شراء المزيد، والأولاد يلحون في مطالبهم الاستهلاكية والمرء نفسه لديه حالة شراهة لشراء أي شيء قابل للاستهلاك وبكميات اكثر من اللازم.
وبلغة الاحصاءات والأرقام فانه في احد الأعوام قدّر نصيب شهر رمضان من جملة الاستهلاك السنوي في دولة عربية قريبة منا على سبيل المثال، بحوالي 20% أي ان هذه الدولة العربية الشقيقة تستهلك في شهر واحد وهو شهر رمضان خمس استهلاكها السنوي كله، بينما تستهلك في الأشهر المتبقية الأربعة أخماس الباقية وقد كلف رمضان في ذلك العام الخزانة حوالي 720 مليون دولار.
وللأسف فليست الدول العربية والاسلامية الأخرى بأقل من تلك الدولة استهلاكاً.
لذا يمكن القول وبصراحة ان هناك تبذيراً واسرافاً الى حد السفه، فالكميات التي يتم شراؤها في الأيام العادية، يتم تجاوزها الى اضعاف الأضعاف في شهر رمضان على الرغم من انه لا يحوي سوء وجبتين فقط!!
ومن المعلوم من جهة اخرى ان من معاني الصوم أنه امساك عن شهوة البطن، وبالمعنى الاقتصادي تخفيض الانفاق او ترشيد الانفاق بمعنى أدق.
فالانفاق البذخي إذن في رمضان وغيره امر لا يمكن ان يتسق مع وضعية مجتمعاتنا الاسلامية التي هي في الغالب مجتمعات نامية تتطلب المحافظة على كل جهد ومورد من الهدر والضياع.
إن ما نصنعه ونسلكه منهجاً وعادات وتقاليد وطقوسا ان صحت العبارة هو في الحقيقة هدر لامكانات مادية نمتلكها في غير موضعها، وهدر لقيم سامية طالبنا الدين الاسلامي بالتمسك بها وهدر لسلوك قويم هو القناعة.
إن شهر الصوم فرصة ولاشك يتعلم فيها أفراد أمتنا عادة اقتصادية حميدة هي ترشيد الانفاق, وهو ايضا فرصة دورية للتعرف على قائمة النفقات الواجبة، وفرصة لترتيب سُلّم الاولويات، وفرصة للتعرف على مستوى الفائض الممكن الذي ينبغي توجيهه الى اغراض استثمارية إذن ما المطلوب؟!
إن خطة شاملة لمواجهة الشراهة الاستهلاكية أصبحت مطلوبة في رمضان وغير رمضان, خاصة ان هذه الحالة من شراهة الاستهلاك المتنامية فينا، تنم عن المدى الهائل من التخلف السلوكي الذي تعيشه مجتمعاتنا الاسلامية.
والمتأمل لصناديق وأكياس القمامة وتلال النفايات، يرى اننا في حاجة ملحة لإعادة النظر في قيمنا الاستهلاكية باتجاه تعديلها، لتصبح قيماً انتاجية او قيماً استهلاكية رشيدة.
ذلك لان الاستهلاك والانفاق لهما أبعاد خطيرة تهدد حياتنا الاقتصادية وأمننا الوطني, فهل يكون شهر رمضان فرصة ومجالاً لامتلاك إرادة التصدي لحالة الاستهلاك الشرهة وأساليب الانفاق البذخية؟!!
عضو هيئة التدريس بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية
|
|
|
|
|