| الاقتصادية
لقد باغتتنا العولمة ونحن في أقصى تجليات التخلف,هاهي قادمة إلينا من كل الاتجاهات وبلبوسات متنوعة، معلنة العزم على تفكيك رموز واقعنا الاجتماعي.
قد اتهم، أو ربما اتهمت، بأنني اعلن عن خطاب معولي، نعم، ولكن ليس بغرض الهدم والتخريب، وإنما للحفر والتنقيب للكشف عن كنوز طمرت (عن عمد وغير عمد) تحت ركامات أضعفت من جهاز مناعة البناء الاجتماعي، فزادت (لا بل تزايدت) أمراضه، واستطونت مستقرة في أعماقه، وعلى امتداد مساحته الجغرافية والإنتاجية، وكأنها تحدت زمرته الدموية.
إننا بحاجة إلى لحظة صدق ننطلق منها باتجاه المكاشفة والاعتراف بكافة عصابات وهذيانات التخلف التي تراكمت كخبرات مَرَضية مترسبة في قاع اللاشعور الجمعي, هذه العصابات ليست إلا نتيجة لانتكاسات خطيرة وهزائم اهتزت من خلالها الذات مع نفسها أولاً، وتالياً امام الآخرين.
لماذا نكابر (وخاصة من قبل بعض الأقلام الوطنية المزاودة) ونبتكر كل أساليب النكران والنفي القاطع لوجود أي مشكلة لدينا وحتى عندما تتواضع هذه الأقلام وتعترف بوجود بعض المشكلات فإنها تنسبها إلى تآمر الآخرين علينا (التفسير التآمري باعتباره واحداً من عصاباتنا المعاصرة).
إذا لم نكن في حالة تخلف واضحة ( وهذه بحد ذاتها ميزة إيجابية، لأنها تمثل الخطوة الاولى باتجاه تجاوز التخلف)، فإننا، ومما لا شك فيه نتخبط في مخاض قد لا يتمخض، كحد أدنى على المدى القريب عن ولادة وعي بضرورة إنجاز تنمية ما.
وهاكم جملة من المؤشرات علي سبيل المثال لا الحصر التي تدل على تخبطنا:
1 عدم وجود نظام اقتصادي واضح المعالم، إلى درجة يعجز فيها أي عالم اقتصاد عن العثور على تسمية علمية محددة تميز اقتصادياتنا السائدة.
2 ميزان تجاري خاسر، وخاصة عندما تنخفض أسعار المواد الخام.
3 أدوات الإنتاج وأساليبه في منتهى التخلف والبدائية، لا بل والتعويقية لمشروعات التنمية ( في حال وجودها فعلياً).
4 عجز مطلق عن إنتاج اي سلعة قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية أو حتى الإقليمية, حتى في حال وجود صناعات في بعض مجتمعاتنا، تكون هذه الصناعات إما مملوكة لشركات متعددة الجنسيات (تشارك في القرار السياسي الوطني وتصادره لمصلحتها في غالب الأحيان وتبعاً لدرجة تواجدها الاخطبوطي في هذه المجتمعات)، وفي أحسن الحالات، إذا كانت هذه الصناعات وطنية، فإنها في الأعم تحويلية غير قادرة على المنافسة مع مثيلاتها في الأسواق، أو تكون تجميعية لا تقدم ولا تؤخر.
5 إنحياز الرأسمالية الوطنية لاستثمارات قوية خارج مجتمعاتنا، متذرعة بأسباب واهية كغياب الديمقراطية كما تتمناها وتخدم أغراضها، أو مخاوف أخرى.
6 القصور الشديد والمتعمد (بالرغم من بعض التبريرات السخيفة) في استغلال الامكانيات الإنتاجية الضخمة المتوفرة في مجتمعاتنا سواء الزراعية منها أو السياحية أو تلك المتمثلة في الثروة السمكية او النفطية أو المعدنية أو القائمة في عقول وخبرات نادرة ضيّق عليها في مجتمعاتنا فهاجرت (أو بالأحرى هُجِّرت) إلى مجتمعات أخرى فتألقت وشكلت علامات علمية فارقة وهامة في تلك المجتمعات.
7 التباين الحاد في مستويات النمو والاستثمار الأمثل بين قطاع إنتاجي وآخر,, وحتى بين مادة خام وأخرى تبعاً لحظوظ طلبها من الآخر,, وما بين مدينة وأخرى,, وما بين طبقه وأخرى.
8 تحوّل المجتمع على امتداد مساحته بدءا من العاصمة ومروراً بكل حاضرة وصولاً إلى أقصى مزرعة إلى سوق استهلاكية تمتص بكل تقدير وبذخ وإسراف وتباهٍ بشكل طقوسي لسلع الآخر المصنَّعة من موادنا الخام، في حين كان الأجدى بنا ان نصنِّع هذه المواد الخام لنا، وللمنافسة في الاسواق العالمية.
9, إجماع منقطع النظير على استباحة سرقة المال العام من خلال تفريغ القطاع العام من إمكانياته المادية والعلمية والبشرية لصالح القطاع الخاص وسيطرته وسطوته المطلقة على الدورة الاقتصادية والمقدرات والموارد العامة في المجتمع وبشكل لصوصي واحتيالي على الدولة ونظامها الضريبي، وعلى المواطن وافقاره اقتصادياً وعلمياً وسياسياً وأخلاقياً.
10 عدم نشر، لا بل وحظر مطلق على نشر بعض الاحصائيات التي تكشف عن وجود بعض الأمراض الاجتماعية التي تتنافى مع القيم الرسمية.
11 تغييب الرأي العام، وتحطيم منابره واستبدالها بمنابر خلبية لا تعبر عن حقيقته ولا تتبنى اهدافه ولا ترصد نبض الشارع بتحولاته المدهشة والمزعجة في غالب الاحيان.
12- إمّحاء الطبقة الوسطى في مجتمعاتنا، مما ينذر بانفجارات قد تطيح بالصالح والطالح معاً، فالطبعة الوسطى هي صمّام الأمان الذي يحفظ التوازن والاتزان، ويلعب دور الحكم والوسيط، ويسهِّل عمليات الحراك الاجتماعي من وإلى، وعلى المستويين الأفقي والشاقولي,.
13 إعلان صريح من الأرض، وكافة أشكال الإنتاج الشريفة إفلاسها واستسلامها وإقرارها بالهزيمة امام الإنتاج المضاد، والمزيف.
14 افتقار البيروقراطية (بنسختها العربية) إلى الاستقرار والموضوعية والكفاءة والحياد السياسي النسبي تجاه المواطنين، وارتباطها بجهاز حكومي تسلطي وشديد المركزية.
15 تحوّل مدارسنا ومراكزنا العلمية وجامعاتنا إلى مؤسسات تمنح خريجيها أعلى الشهادات في الأمية المقنّعة التي لاتقل خطورة إن لم تكن أخطر من البطالة المقنّعة والاخلاق المقنّعة، والاقتصاد المقنع,, إلى آخره,.
بعد هذا العرض السريع,, هل تمكنا يا ترى من تحديد ورسم معالم ما نحن فيه من تخلف وتخبّط وعجز عن مواجهة العولمة؟
ابداً, المشكلة لا يمكن حصرها في نسق سياسي أو اقتصادي فقط,, لا يمكن حصرها في الجماعة دون الفرد,, في سلطة دون أخرى، فكل سلطة في مجتمعاتنا حتى السلطة الأبوية تميل إلى التسلط,.
وبمقدار ما تكون المشكلة في آليات وعمل البناء الاجتماعي، تكون أيضا فيما يعرض لنا من تغير من الخارج، فعندما استنسخنا الحضرية، ولدت لدينا في أحايين كثيرة على شكل حضرية مضادة.
وتتجلى المشكلة لدينا في الخطاب السياسي الرسمي وشبه الرسمي والهامشي منه الذي اندفع منذ الحصول على الاستقلال باتجاه الأحكام المطلقة وإعدام كل من يختلف معنا بالرأي,.
وها هي الثقافة اللاشعورية الانتربولوجية تتسلط على سلوك الإنسان العربي المعاصر، مما يعني لاحقاً تقوية الثقافات الاقليمية القطرية الضيقة على حساب الثقافة العربية الحاضنة والصاهرة في بوتقتها لهذه الثقافات المتموضعة في اللاشعور الجمعي.
وفي أجواء اجتماعية مأزومة، يقوم التعاقد الاجتماعي وعلى مختلف مستويات العلاقات الاجتماعية على مبدأ شريعة الغاب، وانتشار السلوكيات المحايدة أخلاقياً وسياسيا، ووطنياً، وتمجيد البطولة الفردية والارتكاز عليها بشكل هستيري,.
وتطور القيم الأخلاقية على مرجعية الخوف الاجتماعي أكثر مما هي مرتبطة بقيمنا الدينية وقوانيننا الناظمة.
لهذه الأسباب مجتمعة، ولأسباب أخرى ستفرض علينا ثقافة عالمية طالما بقيت هذه الأسباب ,, وان أمتنا أمام اختبار تاريخي سبق وتعرضت له في عدة مراحل من تاريخها وتجاوزته بنجاح,.
*جامعة الملك سعود قسم الدراسات الاجتماعية
|
|
|
|
|