| مقـالات
أما التحديات :
فجمع لكلمة تحدِّي، من جذر ح, د, و ثلاثي معتل الآخر, قال ابن فارس في المعجم: الحاء والدال والحرف المعتل أصل واحد، وهو السَّوق وحدوته على كذا: أي سقته وبعثته عليه , وحين جاءالى التحدي المقصود لنا، قال: وقولهم فلان يتحدَّى فلاناً اذا كان يباريه وينازعه الغلبة وهو من هذا الأصل، لأنه اذا فعل ذلك فكأنه يحدوه على الأمر , والتحدي بمفهوم المباراة والتنازع يحتاج الى لياقة للعدو والمصارعة وذلك ازدواج باهظ التكاليف، والتحدي بين الثقافة والعولمة تبادلي، فكل منهما يغالب الآخر ويباريه، فالثقافة هدف العولمة والأقوى هو الأغلب، ومن ثم لابد من النظر في امكانيات الثقافة العربية، لكي تواجه قدرها بندية وتكافؤ, والتحدي يشكل مستويين: تحدي تفاضل، وتحدي سيطرة وسبق, واشكالية الثقافة العربية انها تمارس لغة التفاضل، ولكنها لما تملك آلية السيطرة بعد، والمغلوب اما ان يكون مقلداً للغالب أو متفلتاً من اساره.
وأما العولمة:
فتعود في أصلها إلى جذر ثلاثي: العين واللام والميم وهو مايدل على أثر بالشيء يتميز به عن غيره، ومنه: العلامة السمة أو الوسم والعَلَم الراية، والعَلَم الجبل، والعالم كل جنس من الخلق تميزه سمة كعالم الانس والجن والملائكة, وقيل: سميّ العالم عالماً لاجتماعه, وأعلم الشيء علق عليه ما يميزه, وعولم الشيء أي جعله عالماً واحداً متجانساً، فكأنه له علامة تميزه عن غيره، والكلمة مصوغة على زنة فَوعل كجورب الخادمُ سيدّه: ألبسه الجورب، وصومع الولد الثريد: أي جعله كالصومعة, ويمكن صياغة مصطلحات على زنة فَوعل مثل القولمة والعوربة والسودنة والصوملة ، ويمكن بناء صيغ أخرى تؤدي ذات المعنى مثل الأمركة والتمصير والأفغنة والعصرنة واللبننة والمقصود: صيّر شيئاً ما على هيئة شيء آخر وهي صيغ تستدعيها الظواهر السياسية التي لا تني من سك المصطلحات لتواجه المتغيرات المتتابعة, وعلماء الصرف فيم أذكر يتحفظون على صيغة فَوعل ، ولأنها عندهم من المسموع الذي لا يقاس عليه، وان كان وزناً صحيحاً، وجاء مستعملاً على جعل الشيء راجعاً الى معنى جذره، وهو تحفظ مفضول، وتضييق على مستعمل اللغة في مواجهة النوازل، وأحسب ان السماع كاف للجواز ولو على الاضطرار, ومعنى هذا ان العولمة تعني تحويل العالم المتعدد في دياناته وعاداته وثقافاته الى شيء متجانس وغير متفاوت، يتميز بعلامة واحدة، يتحد ثقافة وحضارة ومدنية, وهذا مكمن الخطورة، فما الجنس الثقافي والاجتماعي والحضاري والمدني الذي سوف يسود العالم ويجذبه اليه, لأن العولمة ممارسة من طرف واحد سلطوي، يحكم العالم بالقوة، ويصوغه على شاكلته ذهنياً وسلوكياً بالعنف، وهو اذ يفعل ذلك فلن يجعله مثله في: علمه وانتاجيته وانضباطه واحترامه للقانون، ولن يفيض عليه من علمه الدقيق بظاهر الحياة الدنيا ما يجعله نداً، وانما ستفيض عليه ما يضمن التبعية، ويمكن من السيطرة والاستغلال، وهذا ما توحي به صيغة فَوعل اذ هي اجبار والزام، فكأن الغرب المستكبر يفرض ثقافته واقتصاده وانماط سلوكه، ويحتفظ بعلمه وتقنيته، وهو قد فعل مثل ذلك حين لم يسو بين الرجل الأبيض والأسود والعربي واليهودي والغربي والشرقي.
والعولمة اصطلاحاً كما في الموسوعة العربية العالمية المجلد 16 ص 721 ما ملخصه:
لفظ يطلق على عملية التداخل الثقافي بين أنحاء العالم المختلفة، وما ينتج عن ذلك من تأثير ثقافي وسياسي واقتصادي, والعولمة ترجمة لمصطلح انجليزي، وقد اشتقت بالعربية من كلمة تعني التميز والبروز بالعلامة، كما يتميز الجبل والراية، والقصد توحد العالم بتوحد المؤثرات الثقافية أو الحضارية.
وهي كما في الموسوعة نتيجة التطور الهائل في وسائل الاتصال بين المجتمعات والدول وانتقال المؤثرات من بلد الى آخر بسرعة لم يسبق لها مثيل, فالاتصالات الهاتفية عبر الأقمار الصناعية والمحطات الفضائية التلفازية، وانتقال الناس عبر المواصلات السريعة تزيد من تداخل الشعوب والثقافات ببعضها البعض, ونموذج الأخبار التي تنقلها الشبكات التلفازية المنتشرة عالمياً وتبثها وكالات الأنباء مثال على توحد العالم في معلومات اخبارية واحدة تقريباً, والعولمة تعني اسقاط الحد وانهاء الاختلاف وقبول الصيغة المجتمعية الواحدة المعدة من قبل الحضارة المهيمنة، وذلك الذي شرع الخوف من نتائجها المؤدية في النهاية الى الأمركة الأمر الذي أدى الى عقد مؤتمر في كندا عام 1998م حضره اثنان وعشرون وزير ثقافة، أكدوا على اقامة تحالف يحمي من الزحف الأمريكي، كما أكدوا على ضرورة احترام السيادة الثقافية والتعددية الثقافية، وقد كان الاستعمار الثقافي الفرنسي للجزائر أقوى مثال للدمج والالغاء، اذ ما زال الجزائريون يعانون من آثاره: لغة وابداعاً وحضارة.
والمخيف ان خطاب العولمة التوحيدي مثل خطاب التعددية الثقافية ، لم يؤد كما يبدو، الى تعددية متساوية متوازية متكافئة في المؤثرات الثقافية وفي تقاسم الغنائم، وانما يعكس الوضع الحضاري العالمي الذي يهيمن فيه الأنموذج الحضاري الغربي على غيره من النماذج, واذا كانت تلك الهيمنة لا تتخذ شكل المواجهة المباشرة المتمثلة بصدام الحضارات، كما كان يحدث زمن الاستعمار التقليدي الأوروبي القديم للشعوب الأخرى، فانها تتمثل في نوع من الزحف الحضاري السلمي غير المباشر كالخدر الذي يدب في الأوصال دون وعي, وأبسط ملامحه المستعملات من ملبس ومأكل ومشرب ومركب ومسكن وأجهزة وغيرها، وهو التجنيس المألوف الذي يجهز لما هو أهم وأخطر، والمتتبع للأنظمة والمناهج والمعارف وكل مشمولات المدنية، ينتابه الخوف من استفحال القابلية للتعولم الطبيعي, فالشارع العربي لا يعكس الخصوصية العربية، انه خليط عجيب من حضارات شتى، وأنت ترى مثل ذلك في البيت والمكتب والمدرسة، وكل تلك ممهدات للتعولم الطبيعي.
والعولمة فيما أتصور ليست ناتج تطور تقني وحسب، وانما هي رغبة القطب الواحد الذي توفرت له امكانيات تقنية وغيرها، ومن ثم جد لوضع صيغة مناسبة للعالم، بحيث لا يكون هناك خروج على السرب يعوق مشروع الهيمنة الاقتصادية والحضارية، والامكانيات مساعدة ومغرية لطرح المشروع، وليست منتجاً حتمياً له، كما يتوهم البعض، مع ان القابلية قد تتحول الى رفض بمجرد الوعي والتحرف، اذ لا مكان لليأس والقنوط، فكم يقدر الأقوياء وتأتي النتائج لصالح الضعفاء اذا لم يفرطوا في جنب الله.
والعولمة ذروة الغلبة، اذ هناك استعمار الثكنات العسكرية والمناديب والمستشرقين والمبشرين والمستغربين، وحين استنفد الاستعمار التقليدي طاقته جاء النظام العالمي الجديد ، ولم نتلبث معه الا قليلاً حتى اجتاحتنا العولمة كآخر خطاب نعايشه، وهي في نظري الأخطر، لأنها تطبيع ومسخ والغاء للهوية والخصوصية, اذ تبيح لنفسها التساؤل عن سائر الأوضاع: السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، وهي اذ تسأل لا تبيح لأحد التساؤل عن حقه في العلم والصناعة وتقاسم الامكانيات، وهي اذ لا تفكر بالمساواة والمشاركة تمارس العمل في الصميم، فالاقتصاد وقضايا المرأة وما يتعلق بها من طلاق وتعدد وإرث وقوامة وعمل مشروط وسفور وتبرج واختلاط وخلوة وغير ذلك وما يفرض بدعوى حقوق الانسان المانعة من تطبيق الأحكام الشرعية كالقتل والقطع والرجم والجلد كل ذلك بوادر مخيفة، ومؤتمرات المرأة والاسكان وتوصياتها تنسف الخصوصية الثقافية، وتحول دون الحاكمية الاسلامية.
والمواجهة الحضارية كالمعركة العسكرية تحتاج الى آلة وتخطيط وتوقيت وتقدير واجتماع كلمة وامكانيات استثنائية لاختراق الآخر أو التحصن منه، وهو ما لم يتوفر عليه العالم الثالث، ومنه العالم العربي والاسلامي.
ولأن ناتج العولمة يعني تخلية الأمة من انتمائها الاقليمي واللغوي والفكري والحضاري والثقافي والتاريخي وافراغها من كل محتوياتها التراثية فانها لبُّ المواجهة الحضارية، وازاء هذا الخطر الداهم فاننا بحاجة الى جهد استثنائي وصياغة جديدة لخطابنا لاستكناه العولمة ومواجهتها بوصفها قضية الساعة، وبوصفها اقتصادية سياسية ثقافية، ونفاذها الفكري والثقافي أخطر من سيطرتها الاقتصادية والسياسية, والكم الهائل من الكتب والدراسات والندوات والمترجمات التي تعقبت هذا المصطلح كادت تسبق التأسيس المعرفي له مع ما كشفته من فوضوية مستحكمة وآراء متناقضة وتصورات متباينة وارتباك معرفي عشوائي, وهذه النازلة المزعجة والمخيفة عمقت الفرقة والخلاف بين أصحاب القضية الواحدة، ذلك ان الانتماء الديني والحاكمية الاسلامية لم تكن حاضرة العلمانيين والحداثيين والقوميين، وهؤلاء قبل نازلة العولمة في صراع مستحر مع الفكر الاسلامي المستنير، والتباين في الآراء والتصورات والمواقف فتح شهية الغرب للتوسع في مقتضيات المصطلح الذي بدأ بالاقتصاد المتواضع، ثم امتد كما الوباء مستشرياً في جسم الأمة دونما مقاومة علمية حضارية مؤسساتية، فالأمة التي لا تنفر جميعاً لمواجهة التحديات يسهل احتواؤها والسيطرة عليها, والأمة التي لا تواجه النوازل بخطاب مؤسساتي يكون فيه المفكر بعد طرح رؤيته كشاعر غزية يغلب المصلحة العامة على الرؤية الخاصة تتحول الى غنيمة باردة، ذلك ان يد الله مع الجماعة، وانعدام الوحدة الفكرية مؤذن بانعدام وحدات أخرى، وذلك ما تعانيه الأمة العربية، وكل أطرافها تمارس بفعلها التجذيل والاحباط والخبال، ونخبها تنازع بعضها عبر مناكفات تبحث عن الانتصار ولا تتوخى الحق.
والأمة المستباحة بطوفان المستجدات بحاجة الى فرز مفردات الغرب، وتصنيف ممارساته، وتقصي المعلومات عن فعله ومواقفه ومنتجاته واعطاء كل شيء ما يقتضيه وتحديد المواقف على ضوء ما يتوفر من معلومات صحيحة تنتجها دراسة علمية موضوعية منهجية مؤسساتية، لا تعتمد الاثارة، ولا تميل الى كسب الغوغاء وسرق الأضواء وصناعة الذات على حساب المصلحة العامة, والمواجهة يجب أن تتجاوز الاقليمية والمبادرات الفردية، لتكون أممية تباشر التأسيس المعرفي لحرب حضارية طويلة الأجل باهظة التكاليف، ولن يتأتى ذلك الا بالتقارب الفكري واستصحاب التراث واظهار الدين وحماية اللغة والأخذ بأسباب الحضارة والانفتاح على العالم وتبادل المصالح والخبرات واعداد القوة بكل وجوهها والثقة بالذات والتحرر من الانبهار, وقدرنا العصيب أننا نعيش خلطة مستحكمة مع الغرب نستثمر كل منجزه، ولا نستغنى لحظة واحدة عن آلياته ومكتشفاته ووسائله ومناهجه واسلوب تعامله مع الأشياء، ومع هذا نختلف في فهمه وفي قبوله أو رفضه، وهذا الارتباك أرضية صالحة لتخصيب مشروعه العولمي, ومع هذا الوضع غير السوي استحالت فرصة الاستقلال الذاتي، اننا أمة مسلمة لها شرعتها ومنهاجها وأحكامها وشعائرها، ولها حضارتها وقيمها وضوابطها التي تختلف عما لدى الآخر المهيمن ومن واجبها وعي التميز، وفي الوقت نفسه يجب ألا تمانع من الاستفادة المادية والعلمية واتخاذ الوسائل المؤدية الى القوة، فالتخلف ليس من لوازمها، ولعبة المؤاخاة بين الشرعي والوضعي لعبة خطيرة وحساسة، لا ينهض بها الفرد ولا يرسمها الخطاب العاطفي الاستهلاكي، وانما ينتجها جهد جماعي مكتمل الأهلية، يضع الضوابط، ويحدد الممكن وغير الممكن، ويتوفر على آلية الاجتهاد وشرطه وامكانياته.
ولأن العولمة واحدة من مفردات الحضارة الغربية، ونحن: اما مكرهون أو مضطرون للدخول بها كافة بحكم الخلطة والحاجة والضعف والاختلاف، فان أمر التعامل معها من الخطورة بمكان، والدخول المشروط والمنظم أفضل من المواجهة غير المتكافئة أو الرفض غير المدروس، والتأذي من الغرب حاصل من قبل العولمة ومن بعد ما جاءت.
ونحن بازائها أحوج ما نكون الى الوعي: وعي الذات، ووعي الآخر، لكي نتمكن من وضع صيغة معقولة للتعامل مع مجمل القضايا المتحفظ عليها، ومنجز الآخر: اما ان يكون علمياً يمس ظاهر الحياة الدنيا كالعلم التجريبي وسائر الصناعات والمكتشفات، أو يكون ثقافياً كالعلم النظري والعادات والعبادات والأحكام والأنظمة واللغات والآداب والفنون وكل ما تتجسد من خلاله الهوية والحضارة كالقيم والدساتير، والعلمي التجريبي وما لا يقوم العلم الا به عالمي الانتماء، وأما الثقافي فله مستوياته في القبول المشروط أو الرفض المطلق أو التوقف حتى الاستبانة، ومواجهة النوازل التي تتطلب حكماً شرعياً تحتاج الى مؤسسات فقهية جماعية تتداول الرأي وتراعي الأوضاع لتقول عن بصيرة، والاسلام له نصه القطعي أو الاحتمالي في الدلالة والثبوت، والدخول على النص لاستنطاق أحكامه ازاء النوازل له ضوابطه التي يعرفها الأصوليون، وللاسلام مقاصده وقواعده، ومن ثم لا يجوز أن نواجه النوازل بخطابات نخبوية وسياسية واعلامية متعددة في ذواتها مستقلة في رؤيتها, بل يجب تحويل الخطاب من مبادراته الفردية وتشتته الفئوي الى خطاب جماعي مؤسساتي يعبر عن المواقف الجماعية، خطاب يعتمد على التأصيل الشرعي والحوار الحضاري.
|
|
|
|
|