| عزيزتـي الجزيرة
الوقفة الأولى: الشتاء ربيع المؤمن
خرّج الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: الشتاء ربيع المؤمن، وخرّجه البيهقي رحمه الله وغيره وزاد فيه، طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه,يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتاب النفيس لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف : إنما كان الشتاء ربيع المؤمن، لأنه يرتع فيه، في بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات وينزّه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، كما البهائم في مرعى الربيع فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسّر الله فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر في الشتاء إلى صيام نهاره من غير مشقة، ولا كلفة تحصل له من جوع ولاعطش، فإن نهاره قصير بارد، فلايحس فيه بمشقة الصيام.
الوقفة الثانية: الشتاء الغيمة الباردة
في المسند وعن الشفري رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة، قالوا بلى فيقول: الصيام في الشتاء، ومعنى كونها غنيمة باردة، أنها غنيمة حصلت بغير قتال ولاتعب ولا مشقة ، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفواً صفواً بغير كلفة.
وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة فيقرأ المصلي ورده كله من القرآن وقد أخذت نفسه حظها من النوم فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه مع إدراك ورده من القرآن، فيكمل له مصلحة دينه وراحة بدنه.
يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: مرحباً بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام.
وعن الحسن البصري رحمه الله قال: نعم نُدمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه، وعن عبيد بن عمير رحمه الله انه كان إذا جاء الشتاء قال يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرأوا وقصر النهار لصيامكم فصوموا، قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف,ولهذا بكى معاذ رضي الله عنه عند موته وقال إنما أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
بخلاف ليل الصيف فإنه لقصره وحره يغلب النوم فيه فلا تكاد تأخذ النفس حظها بدون نومه كله فيحتاج القيام فيه إلى مجاهدة وقد لايتمكن فيه لقصره من الفراغ من ورده من القرآن,جاء في كلام يحي بن معاذ رحمه الله ناصحاً: الليل طويل يا مسلم فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدّنسه بآثامك,ثم إن قيام ليل الشتاء يشق على النفوس من وجهين أحدهما: من جهة تألم النفس بالقيام من الفراش في شدة البرد، والثاني: بما يحصل بإسباغ الوضوء في شدة البرد من التألم واسباغ الوضوء في شدة البرد من أفضل الأعمال,روى ابن سعد باسناده ان عمر رضي الله عنه وصّى ابنه عند مماته فقال له: يابُني عليك بخصال الإيمان، قال وماهي؟، قال: الصوم في شدة الحر أيام الصيف، وقتل الأعداء بالسيف والصبر على المصيبة واسباغ الوضوء في اليوم الشاتي وتعجيل الصلاة في يوم الغيم.
الوقفة الثالثة: الشتاء عدو
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهد أصحابه وكتب لهم بالوصية ان الشتاء قد حضر وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب واتخذوا الصوف شعاراً ودثاراً فان البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه, وإنما كان يكتب عمر إلى أهل الشام لما فتحت في زمنه، فكان يخشى على من بها من الصحابة وغيرهم ممن لم يكن له عهد بالبرد أن يتأذى بالبرد برد الشام وذلك من تمام نصيحته وحسن نظره وشفقته وحياطته لرعيته رضي الله عنه, وليعلم انه ليس المأمور به أن يتقي المرء البرد حتى لايصيبه منه شيء بالكلية، فان ذلك يضّر أيضاً، وقد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر والبرد بالكلية حتى لايحس بهما بدنه فتلف باطنه وتعجّل موته,فإن الله تعالى بحكمته جعل الحر والبرد في الدنيا لصالح عباده، فالحر لتحلّل الأخلاط والبرد لجمودها فمتى لم يصب الأبدان شيء من الحر والبرد تعجّل فسادها,إن المأمور به اتقاء مايؤذي البدن من الحر المؤذي والبرد المؤذي المعدودان من جملة أعداء ابن آدم,قيل لأبي حازم الزاهد إنك لتشدد يعني في العبادة فقال: وكيف لا أشدد وقد ترصد لي أربعة عشر عدواً, قيل له، لك خاصة، قال: بل لجميع من يعقل, قيل له وما هذه الأعداء؟ قال: أما أربعة فمؤمن يحسدني ومنافق يبغضني وكافر يقاتلني وشيطان يغويني ويضلني وأما العشرة: فالجوع والعطش والحر والبرد والعري والمرض والفاقة والهرم والموت والنار، ولا أطيقهن إلا بسلاح تام ولا أجد لهن سلاحاً أفضل من التقوى, فعدّ رحمه الله الحر والبرد من جملة أعدائه.
الوقفة الرابعة: الشتاء الفاضح
قال الأصمعي: كانت العرب تسمي الشتاء الفاضح، فقيل لامرأة منهم أيما أشد عليكم القيظ أم القرّ؟ قالت سبحان الله من جعل البؤس كالأذى فجعلت الشتاء بؤساً والقيظ أذى,قال أبو عمرو بن العلاء: إني لأبغض الشتاء لنقص الفروض وذهاب الحقوق وزيادة الكلفة على الفقراء.
وقال بعض السلف: البرد عدو الدّين، يشير إلى أنه يفترّ عن كثير من الأعمال ويثبّط عنها فتكسل النفوس بذلك وقال بعضهم: خلقت القلوب من طين، فهي تلين في الشتاء كمايلين الطين فيه.
الوقفة الخامسة: فضائل الشتاء
ومن فضائل الشتاء أنه يذكّر بزمهرير جهنم ففي الحديث الصحيح عن نبي الهدى عليه السلام ان لجهنم نفسين: نفساً في الشتاء ونفساً في الصيف، فأشد ماتجدون من البرد من زمهريرها وأشد ما تجدون من الحرّ من سمومها.
لذا يستحب الاستعاذة من زمهرير جهنم كما ورد عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.
كم يكون الشتاء ثم المصيف وربيع يمضي ويأتي الخريفُ وارتحال من الحرور إلى البرد وسيف الردى عليك منيفُ ياقليل المقام في هذه الدنيا إلى كم يغرك التسويفُ عجباً لامرىء يذّل لذي الدنيا ويكفيه كل يوم رغيفُ |
د, زيد بن محمد الرماني عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
|
|
|
|
|