| مقـالات
إن من يصف العولمة اليوم مثل الأعمى الذي يحاول ربما ان يتعرف على حجم الفيل او شكل الجمل ليصفه للآخرين,, فقد يتحسس بعض الأجزاء ويتخليها بأنها هي الفيل او الجمل بأكمله,, كما أن آثار العولمة التي نعتقد اننا من خلال دراساتنا وتحليلاتنا ومراقباتنا قد حددناها، فهي ليست الا مجرد قمة الجبل الجليدي نصفها من خلال رؤيتنا لها، ولكن معظم الكتلة الجليدية تغيب عن عيوننا، ولهذا لانستطيع استجلاء آثارها وحجم الأخطار التي قد نواجهها,,
وتظل الاسئلة الحاسمة في الحديث عن العولمة تكمن في تحديد مسببات التغيير، ومعالم التحول، وآفاق المستقبل، وهذه أسئلة أساسية نستطيع من خلالها تلمّس الوضعية الراهنة التي شرع العالم في دخولها بدون معرفته لها، وبدون استشعار بعيد لما يمكن ان يؤول اليه العالم، او لنقل من باب الدقة والحيطة معظم هذا العالم وليس كل هذا العالم,,
إن مصطلح النظام العالمي الجديد بمفهومه الحالي الذي نعرفه اليوم، كان قد بدأ مع مطلع العقد التسعيني، عندما أعلنه الرئيس الامريكي جورج بوش في خضم الحديث عن فكرة العصر الجديد في إطار تداعيات حرب الخليج الثانية عام 1990م, ولاشك أن رئيس اقوى دولة في العالم عندما يعلن ذلك، فقد كان قد وصل الى قناعات بأن مفهوم الايديولوجيا المضادة التي كان يتزعمها ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي قد انهارت، وبدأت سياسات التلاقي convergence بين المعسكرات ضمن وحدة جديدة لم تكن مسبوقة في تاريخ العالم الحديث,
حاول توماس فريدمان مراسل الشئون الخارجية بصحيفة النيويورك تايمز في كتابهلكزس وشجرة الزيتون الصادر العام الماضي 1999 ، أن يصف العولمة من خلال مقارنتها بمرحلة سابقة وهي مرحلة الحرب الباردة التي استمرت لمعظم سنوات النصف الثاني من القرن العشرين, ووصف فريدمان بأن الكلمة التي تعبر عن مرحلة الحرب الباردة هي كلمة تقسيم bivision مقابل كلمة تكامل integration في عصر العولمة,,, واذا كان رمز فترة الحرب الباردة هي جدران وستائر حديدة، فإن رمز المرحلة التي نعيشها اليوم هي الانترنيت، وصفحات world wide web,,
وهنا سنقوم باستعراض ثلاثة مفاهيم وقيم تحدد الإطار العام للعولمة، وتنبني عليها أطروحة دولة العولمة وحكومة العالم الجديد، التي سنعرض لها في هذه الورقة، وهذه المفاهيم هي: المسافة والزمن، الدولة والحدود، والشركة العالمية,
أ المسافة والزمن:
يمكن القول أن مفهومي المسافة والزمن قد تغيرا، وتلبسا في زمن العولمة معاني جديدة، وقد استطاع الاتصال الالكتروني ان يضغط هذين العنصرين الى درجة ومستوى يهيئ الى إلغائهما او تحجيم وتقليص فاعلية الحواجز التي كان العالم يتعثر بهما في عملية الاتصال, لقد كانت الرسالة التي تنتقل بين نيويورك ولندن تستغرق مدة إبحار سفينة مخترقة المحيط الأطلسي لعدة اشهر,, وذلك قبل أن يطور صامويل موريس التلغراف حوالى منتصف القرن التاسع عشر او يخترع جراهام بيل التلفون في الربع الآخير من نفس القرن, ثم توالت الاختراعات التي تقرب المسافات وتختصر الزمن، ماركوني واختراعه للراديو عام 1895م، وتجربة RCA مع التلفزيون عام 1920 في بيتسبرج، وتجربة أول جهاز حاسوبي عام 1937، ثم اول تطوير لنظام الترانسيستور عام 1947م، وأول قمر صناعي اطلقه الاتحاد السوفيتي سبوتنيك عام 1957م، وبداية نظام الكيبل التلفزيوني التجريبي في ساندياجو لنقل قنوات تلفزيونية من لوس انجلس عام 1961م، ووضعت البنتاجون اول تطبيق لمشروع انترنيت عام 1969، ثم تجربة نقل قنوات الكيبل عبر الاقمار الصناعية عام 1975، واخيرا وليس آخرا في عام 1990م بدأ نظام الشبكة الدولية العنكبوتية world wide webوالذي يعد بداية مرحلة جديدة وعصر مختلف، وأعطى مفاهيم جديدة للمسافة والزمن، حيث ألغى الحدود ليس فقط بين الدول ولكن بين الطبقات والاجناس والشعوب، وبين الكبار والصغار والذكور والاناث والاغنياء والفقراء، والمتعلمين ومحدودي التعليم واصحاب المهن والتخصصات ومختلف الهوايات والشئون العامة والخاصة, إن الانترنيت في شكلها الحالي وكما وصفها البعض بأنها أعظم إنجاز في تاريخ البشرية، أكثر مدعاة للاعجاب من الأهرامات، واكثر جمالا من لوحة ديفيد لمايكل انجلو، وأكثر أهمية من ابتكارات الثورة الصناعية في أوربا,, وفي غضون سنوات قليلة استطاعت هذه الشبكة ان تقلب حضارتنا ظهرا على عقب, وكما قال الرئيس الامريكي في وصفه لشبكة الانترنيت ان أهم ما يميزها هو دورها في الغاء حاجز المسافة، او تحديدا ما وصفه بموت المسافة the death of distance في هذا العصر الجديد,
لقد وفرت أدوات الاتصال والاعلام تقنيات عالية عبر الاقمار الصناعية لبث مباشر وتغطيات فورية لأحداث العالم اينما كانت، ولم يعد سؤال متى مهماً كثيرا في العملية الاتصالية، فمعظم ما تتناقله وكالات الانباء المصورة وشبكات التلفزة الدولية هي مباشر وفوري من موقع الحدث الى كل العالم, فيستطيع العالم أن يشاهد اختطاف طائرة، وهروب محتجزين، وإنقاذ رهائن، وإطفاء حريق، ومسيرة مظاهرات، واشتعال بركان، وحدوث زلزال، الى جانب محاكمات، وقرارات، ومؤتمرات صحافية، وخطب سياسية، وأحداث رياضية، وحركات الاسهم، وردود فورية، وتعليقات مباشرة، كل هذا على الهواء مباشرة من مواقع مختلفة في العالم الى شاشة التفزيون في صالة الجلوس العائلي او غرفة النوم الخاصة,, وهكذا فان عنصر الزمن لم يعد حاجزا يقف امام الاحداث والمواقف وتم توظيف التقنية الاتصالية الحديثة في تحييد حاجزية هذا العنصر التي كانت تعطل او تؤخر عمليات تداول وتبادل المعارف والاخبار والمعلومات بين المؤسسات والدول، والى الناس والأفراد,
ب الدولة والحدود:
كانت الحدود السياسية هي الإطار الذي يحد من وصول الرسائل الاعلامية من الآخر، ويعيق وصولها لأهدافها الدعائية,, ولهذا كان الستار الحديدي، وكان جدار برلين، وكانت الإذاعات الموجهة للتشويش على الإذاعات الدعائية، وكانت الرقابة في المطارات والموانئ وعلى المنافذ الحدودية,, لكن كل هذه إنهارت أمام التحولات الكونية الجديدة, واصبح العالم مفتوحا على بعضه البعض، ورقابات الحدود لا تأخذ الا سماتها الشكلية فقط، ومفاهيم الرقابة غير مجدية، فلماذا نمنع دخول مجلة او صحيفة في مطار الدولة، في حين يمكن استحضار كامل أعداد المجلة من على صفحات الانترنيت, وإذا أردت أن أمنع استقبال رسائل دعائية، فأنا لا استطيع فعل ذلك لأن الأقمار الصناعية تمطر البيوت بمئات وآلاف القنوات من كل اتجاه ومن كافة اتجاهات الموقف، وأنحاء الجغرافيا، واختلافات الأخلاق,
وهذا الطرح يتمشى مع فكرتين متلازمتين، تعبران عن مظاهر جديدة للعولمة، وهما تلاشي الحدود السياسية؛ وتقلص مظاهر سيادة الدولة القطرية, وقد أشار عبدلإله بلقزيز الى تلازم معنى العولمة مع معنى الانتقال من المجال الوطني او القومي الى المجال الكوني، او كما عبر عنها صراحة محمد عابد الجابري بأنها أي العولمة هي عالم من دون دولة، ومن دون أمة، ومن دون وطن، انه عالم الشبكات والمؤسسات العالمية, والعولمة هي نظام يقفز فوق الدولة والأمة والوطن، نظام يريد رفع الحواجز والحدود أمام هذه المؤسسات والشبكات المهيمنة على العالم,
ج الشركة العالمية:
يفرق البعض بين الشركات المتعددة الجنسيات والشركات العالمية، فيرون أن متعددة الجنسيات هي شركة تركز على الفوارق بين المستهلكين بين بلد وآخر، بينما يرون أن الشركة العالمية تنظر الى العالم باكمله وكأنه وحدة واحدة وتنتج وتبيع السلع ذاتها في كل مكان وهذا ما استشرفه ليفيت Llevitt عام 1983م عندما توقع أن مثل هذا النظام هو الذي سيسود في المستقبل، لكن طرحه لم يلق قبولا في حينه, وبدأ الباحثون مؤخرا يلتفتون الى فكرة الشركة العالمية، التي تمثل مجموعة مراكز متداخلة ومنتشرة في كافة مناطق العالم، وتربط هذه الشركة استراتيجيات ومقاييس ومعلومات مشتركة، في حين أن الشركة متعددة الجنسيات ذات مدير واحد في مركز واحد، يقوم بتنسيق أعمال مجموعة الفروع والشركات التي تتبعها والموجودة في الأطراف, وتلعب الشركة العالمية دورها في إدارة النظام العالمي الجديد وفق التخصصات والمجالات المعنية بها, وفي هذا السياق نحتاج التأكيد على دور قوى السوق المالية في إعادة توزيع مراكز القوة في العالم، ومن الأمثلة على ذلك ما حدث في المكسيك عام 1995، وما حدث في دول شرق آسيا في نهاية التسعينيات, ومما يبرز دور قوى السوق فحوى الجدل الذي حدث بين رئيس وزراء ماليزيا ووزير مالية أمريكا، وتحديدا ما قاله الوزير الأمريكي موجها حديثه لمهاتير محمد:
على أي كوكب أنت تعيش؟ إنك تتكلم عن المشاركة في العولمة كأن ذلك يتضمن خيارا متاحا لك,, العولمة ليست خيارا وإنما حقيقة واقعة,, أسواق العالم تشبه الانترنيت، ولا يوجد أحد في مركز السيطرة، لا جورج سورس، ولا القوى الكبرى، ولست أنا,, سوق العولمة اليوم عبارة عن قطيع الكتروني من متاجرين مجهولين بالعملات والأسهم وسندات المشاركة يجلسون وراء أجهزة كمبيوتر، وهم لا يعترفون بالظروف الخاصة لأية دولة,, وإنما يعترفون فقط بقواعدهم,, فالقطيع يرعى في 180 دولة,,
إن الحدود التي تدور العولمة في فلكها وتقع تحت تأثيرها تتسع لكل جغرافية العالم ولكافة المجتمعات والشعوب في مختلف مناطق الكرة الأرضية,
وبينما تتجه الشركة العالمية الى كافة مناطق العالم بدلا من بعض مناطق العالم، نشأت فكرة المدينة الكونية global city التي وضعتها استاذة السيسيولوجيا بجامعة شيكاغو ساسكي ساسين Sassen، ورشحت فيها ثلاث عواصم عالمية: نيويورك ولندن وطوكيو لتكون هي الشكل الجديد للتنظيم العالمي في إدارة شئون العالم، وتحديدا لتكون بديلا للدولة، حيث أن هذه المدن إضافة لمدن أخرى يتمركز فيها الثقل الاقتصادي والمالي والاعلامي، وتتشابه فيها البنى الاقتصادية والاجتماعية بما يؤهلها لقيادة حركة الاقتصاد والمجتمع العالمي,
والعولمة تتواصل,,,
|
|
|
|
|