| مقـالات
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار، ومن يولّهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً الى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) الأنفال 15، 16.
فالتولي يوم الزحف (اي عند مواجهة الأعداء في ميدان القتال، او عند هجومهم على البلد ونحو ذلك من اللقاءات المباشرة، يعدّ من الكبائر، ولذلك اقترن فاعله بغضب الله ودخول جهنم، وهذا يعني أن الجبن في بعض حالاته يكون من الكبائر، كما أن الشجاعة قد تكون سبباً في دخول الجنة، ومن ذلك: (كلمة حق عند سلطان جائر) ومن طرائف هذا الباب ان احد المولّين أدبارهم يوم زحف من الزحوف قال حين لامه الناس على توليه: والله أن تقولوا: فرّ سامحه الله، أحب إليّ من أن تقولوا: قُتِل رحمه الله, ودخل أحدهم بيته فارّا من زحف الأعداء على بلده، فلامته زوجته وقالت وهي تشجعه: قاتل العدو ولا تجبن، فإن حييت عشت شريفاً، وإن مت كنت شهيداً ورزقك الله في الجنة الحور العين، فقال لها وهو يرتعد من فرط جبنه: خذي بندقيتي، وموتي أنت، وخذي في الجنة حوري، وبمقدار ما تفتقر نفس الجبان الى السكينة والشعور بالامن، ينطلق لسانه بالأكاذيب وادعاء البطولات وذلك على حد قول الشاعر:
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا |
ورأيت العرب القدماء أحياناً يمتدحون الجبن، ووهو أمر يبدو غريبا، ولكننا إذا عرفناه زال الاستغراب، ذلك الامتداح أتى تبعاً للامتداح بالكرم، حين كانوا يقولون (فلان جبان الكلب)، كناية عن كرمه وقال حسان بن ثابت:
يغشَون حتى ما تهرّ كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل |
وقال جرير فيما أحسب في الهجاء:
قوم اذا استنبح الأضياف كلبهمُ قالوا لأمهم بولي على النار |
وبينما المتنبي في طريقه الى بغداد: خرج عليه فاتك بن أبي جهل الأسدي، في نيّف وثلاثين فارسا، رامحين ناشبين، لينتقم لضبّة بن يزيد، وكان ابن اخته، وليستولي على ما يحمل المتنبي معه من ثروة, وكان مع أبي الطيب غلمانه، وابنه محسَّد، وكانوا أقل عددا وعدة، وأدرك أبوالطيب عدم التكافؤ هذا فأراد أن يروغ ويهرب من وجه عدوه هروب الراكن لا هروب المتولي، ولكن فاتكا قال له: أولست القائل:
الخيل، والليل، والبيداء تعرفني والسيفُ والرمح، والقرطاس، والقلم |
فقال له: بلى وربّ الكعبة، وخشي أن يتهم بالجبن، فعطف على عدوه وقاتل حتى قُتل, وهو القائل في شعره ايضا:
فاطلب العزّ في لظى، وذر الذّلَّ ولو كان في جنان الخلود يقتلُ العاجزُ الجبان وقد يعجز عن قطع بُخنق المولود ويُوقىَّ الفتى المخش وقد خوَّض في ماء لبّة الصنديد |
(اليخنق: معروف اليوم بالمسفع، المخش: الجريء، خوَّض: دخل باقتدار).
وقد وعدتكم في المقال السابق بمواصلة الحديث عن طريق ايراد بعض الأمثال في الجبن, قالوا: أجبن من الرباح .
وهو القرد الذكر خاصة وهو الربح ايضاً قال بشر بن المعمر:
وإلقة ترغت رباحها والسهل، والنوفل، والنضر |
(الإلقة: القردة، والرباح: هنا ولدها، ترغث: ترضع، السهل: الغراب، النوفل: البحر، النضر: الذهب) وبعضهم ينطقه رباح، بالتخفيف، ويجمعه على ربحان.
وقالوا: أجبن من هجرس ، والهجرس: ولد الثعلب، غير أنهم أرادوا به هنا القردة في الميداني (1/185): وذلك انه لا ينام إلا وفي يده حجر، مخافة أن يأكله الذئب، قال محمد بن حبيب اللغوي عن رجل خبير بالقرود وحياتها: انها تجتمع اذا جاء الليل في موضع واحد، على شكل خط مستقيم، وفي يد كل واحد منها حجر، فإن نام واحد سقط من يده الحجر، فتفزع المجموعة كلها، فيتحول الأخير فيصير قدامها، وهكذا دأبها طوال الليل، فتصبح من الموضع الذي باتت فيه على أميال، جبناً منها، وخوراً في طباعها، قال أبو مالك: أهل الحجاز يقولون الهجرس للقرد، وبنو تميم يجعلونه للثعلب، قال في اللسان: واستعارة الحطيئة للزبرقان فقال:
ابلغ بني عبس، فإن نجارهم لؤم، وإن أباهم كالهجرس |
قلت: ما تفعله القرود هو إلى الحيطة وحسن التدبير أقرب منه إلى الجبن، وذلك أمر مطلوب للحفاظ على الحياة، وقالوا: أجبن من ثُرمُله قال الميداني (1/185): الثرملة: الثعلبة، وكذلك قال الأصمعي كما في اللسان، اسم رجل، قال الشاعر:
ذهب لما ان رآها ثرمله وقال: يا قوم، رأيت منكره |
وفي هذا الرجز خطأ في الروي، اذ الروي هنا هو ما قبل التاء المربوطة، وقد جاء مرة لاما ومرة راء، وهذا لا يجوز.
وقالوا: أجبن من المنزوف ضرطاً قالوا: وهو رجل جبان يدعي بين الناس الشجاعة، ففوجئ قومه ذات يوم بالأعداء يغيرون عليهم، وكان هذا الرجل نائماً، فنبهته امرأته قائلة: الغارة,, فلم يزل يحبق من شدة جبنه حتى مات، فسمي المنزوف ضرطا الميداني 1/180.
وقالوا على سبيل السخرية: فلان أجرأ من فارس خصاف وخصاف اسم فرس لا يجارى، أما صاحب الفرس فكان رجلاً من غسان، أجبن أهل زمانه، ويكون دوماً أول المنهزمين، ثم أنه تجرأ وتشجع وترك جبنه وصار من فرسان العرب، وهذا يعني ان بعض الجبن قد يكون قائماً على أساس من الأوهام النفسية، فإذا أزيلت الأوهام، وكسرت الحواجز، زالت تلك الصفة الرديئة، وحلت محلها الجرأة والشجاعة والفروسية، فلا أحد يخلق جباناً على الاطلاق، وانما أوهامنا اذا استسلمنا لها صنعت منا جبناء وعاجزين.
وبنظرة سريعة إلى مجموعة هذه الأمثال نجدها في معظمها تحيل على حياة الحيوان وهذا يؤكد ان العربي كان شديد الملاحظة لما حوله، دقيقاً في معرفة خصائص تلك الحيوانات التي كانت تقاسمه صحراءه، وإلا فكيف عرف منها الجبان والشجاع، واستأهل منها ما استاهل، واستوحش ما استوحش؟
|
|
|
|
|