| مقـالات
ها هو ذا القلم الأكثر بوحاً، والأعظم جرحاً يأبى إلا أن ينزف من جديد وها هي الكلمات العارية في هذا الشتاء تتوحد في ذاكرتي مع حزن خارق للعادة تماماً,.
حزن لا يختلف عن حزن الروائي الياباني (ميشيما)، الذي انتحر احتجاجاً على خيبة أمل بعد روايته الشهيرة (الموت في الصيف),.
حزن لا يختلف عن حزن الكاتب الأمريكي (أرنست همنغواي)، الذي انتحر أيضاً في صيف 1961م، تاركا خلفه مسودة روايته الأخيرة (الصيف الخطر)، وكان ذا نزعة اكتئابية، ورغبة لا شعورية في الفناء، ونظرة سوداوية للحياة والوجود,.
لا أختلف عنه عندما قال في روايته (لمن تدق الأجراس): أما مع ماريّا فشيء آخر، فأنت تحس وأنت في ذروة عواطفك، وكأنك على عتبة الموت .
حزن لا يختلف عن حزن الكاتبة الإنجليزية (فيرجينيا وولف) صاحبة رواية (إلى الفنار)، التي انتحرت في صيف 1941م بعد أن أصيبت بانهيار عصبي، وجنون اكتئابي,.
فكري حائر، وقلبي مضطرب، وكل ما لدي من الأشياء لا يروقني، وليس أمامي في الكتاب الذي بين يدي إلا حديث الشكر (لرا بندر ناث تجور):
هؤلاء الذين يسيرون بعظمة وكبر، ناظرين إلى الحياة التافهة نظرة عجب وخيلاء، خائضين فوق الأرض الناعمة الخضراء بأقدامهم وقد تلطخت بالدماء,.
هؤلاء، دعهم يمرحوا ويلعبوا، وأشكر أنت إلهك، فاليوم يومهم! شكراً لربي، فقد جعل نصيبي بين المتواضعين، الذين يقاسون من مرارة العيش ومتاعب الحياة ألواناً، ويتحملون فوق ظهروهم عبء تكبر الغير وجبروته، مخفين وجوههم، كاتمين ما يعانونه من قسوة وشدة في الظلم.
إن كل دقة في القلب تشعر بالألم قد أحسست بها أنت في جوف ليلك، وإن كل سبّة لا بد أن تكون قد تذوقتها أنت في هدوئك,.
إن الغد سيكون لنا,.
إيه، أيتها الشمس، انشري شعاعك فوق القلوب الدامية، واجعلي منها أزهاراً مفتحة في الصباح,.
فستندثر عربدة الكبر وستؤول إلى رماد,,
ووسط هذه التقلبات المتناقضة كدت ألامس شيئا يشبه الجنون في تساؤلي الدائم:
أيمكن للتفكير أن يفعل بهذا الجسد من الصدمات المتتالية كل هذا؟؟ وقبل الإجابة، تتخطى ابنتي الوحيدة (شهد) حواجز الصمت وسجنه وسجانه في هذه المعرة التي تشبه معرة النعمان,.
وتفاجئني بصورة تحملها لسيدي (سلمان بن عبدالعزيز)، ولا أدري من حملها تلك الأمانة!!
فأخذتها منها، وحاولت أن أقول لها شيئا قد تكور في حلقي منذ زمن، فلم يسمح لي بالصراخ ولا البكاء,.
وقبل كل ذلك، كانت شفتاي اليابستان، قد راحتا تلثمان صورته في قبل متواصلة ومحمومة.
وفي هذه الأثناء حاولت أن أحيط بها بذراعي المرتعشتين، لتكون قطعة من هذا الجسد الناري، حتى يسكن فيه الخوف، وتطفأ فيه النار,.
لا أدري,.
في تلك اللحظة كنت جائعاً إليه وحده، بتاريخ من العقد والحواجز والمتناقضات، وعمر من الظمأ والانتظار، وآمال وآلام بين الرغبة والخجل، ودموع بين القيم الموروثة والوداع,,!!!
في تلك اللحظة، قد ولدت ومت في وقت واحد، وكنت أريد أن أصرخ كما صرخ (غوته)، الألماني على لسان فاوست قف أيها الزمن,, ما أجملك!!
ولكنه عندي بحضور سيدي سلمان!!!
فجأة فقدت شهية الكلام، واكتفيت بالتأمل، والذهاب في كنفه إلى أبعد نقطة تصلها نفس في فضاء الإنسانية.
وتساءلت:
بأي يدٍ ولون سيرسم هذا الإبداع (فان كوخ، دولاكروا، غوغان، دالي، سيزان، بيكاسو) غير يد التاريخ ولون الشموخ والخلود,.
في ملحمة لا يستطيع (هيجل) أن يتحرر فيها من سلطة الحس، في ملحمة لو رآها (فيدال) لأدرك أن سموه من أسباب السعادة التي دعا إلى توفيرها عن طريق علم المجتمع,.
ما هذا الأمير الاستثنائي، الذي أحسّ أنه الجبل الوحيد الذي يثبت هذه الأرض أن تميد بأهلها، والعباب الزاخر الذي ينقص أمام جودة كل عطاء، لأنه بلغ من الحال والمنزلة غاية ليس وراءها مطّلع لناظر، ولا زيادة لمستزيد، ولا مذهب لذي إحسان، ولا متناول لذي إنعام، ولا فوقها مرتقي لهمّة، ولا مَنزع لأمنيّة،ولا متجاوز لأمل,.
أصيل في نسبه، سديد في رأيه، ماضي العزيمة نافذ البصيرة، فارع في قامته، مهذب في مظهره، يتحدث دائماً بحماسة الأساتذة وكأنه يواصل حديثه لتلاميذه، وليس للآخرين,.
حقاً هنالك مبدعون، يكتفون بوضع عبقريتهم في إنتاجهم، ولكنه سيدي يصر على توقيع حياته أيضاً بنفس العبقرية، ليترك لنا تاريخاً فريداً، غير قابل للتكرار والتزوير,.
قبل هذا اليوم كنت أعتقد بجنون الغربة أننا لا يمكن أن نكتب عن جنوننا في الإعجاب، في ظل الجنون والغربة، إلا عندما نشفى منهما وعندما نستطيع أن ننظر إلى الوراء دون حنين، وعندما نشفى من ذاكرتنا أيضاً التي توحدت مع الإعجاب!!
لكن صورته كسرت في فؤادي كل القوانين والحدود لتسمح لي بالكتابة وحدها دون ألم، وبالبوح دون دموع، فأصبحت لا أؤمن بمساحة الأوراق البيضاء المستطيلة، والتي لم تتسع تلك اللحظات الحزينة التي لم ترسم بعد في لوحة الحياة المشرقة.
وذكرتني بذلك الشاعر التركي العظيم (ناظم حكمت)، الذي كلما وقع في مأساة غنى لتركيا، لسهولها لجبالها، لأنهارها، لورودها، لشعبها,.
لا أدري!! من منهم يطفئ أو يشعل الآخر,.
وتمطر الذاكرة بالنشيد الحزين عندما أخذوه إلى البحر في سفينة ليغرقوه وقرروا أن تكون ميتته بأبشع صورة، فأطلقوا عليه في غرفته المجاري التي اشتبكت بمياه البحر المالح,, وعندما وصل الماء القذر إلى عنقه، أتدرون ماذا فعل؟,.
لم يصرخ، لم يبك لم يتنازل، لم يشتم، لم يركع,.
فقط أمطرته الذاكرة بالنشيد وأخذ يغني لتركيا، لسهولها، لجبالها، لشعبها، العظيم مثلما أغني في هذه اللحظات لسلمان بن عبدالعزيز، لجوده، لمواقفه، لفضيلته، وبصوت شجي يتشكل تدريجياً مع ملامح سيدي على شكل تضاريس الوطن.
إن ما كتبه (أراغون) عن عيون (إلزا)، هو أجمل من عيون إلزا التي ستذبل يوماً ما,.
ومارسمه (ليونارد دفيانشي) في ابتسامة واحدة للجوكاندا إنما هو قدرة (ليونارد) فقط.
لكن الذي سيرسم سلمان، ويكتب عن سلمان يدرك فقط أنه سيدي وحده القدرة والإلهام، ولا يمكن لمبدع في أي عصر من العصور أن يتدخل في إضافة أي شيء,.
ولو وقف (شاغال) ذلك الرسام الذي قضى خمس عشرة سنة في رسم لوحة أمامه لأدرك أنه يحتاج إلى آلاف السنين لكي يستطيع أن يرسم ابتسامته التي تخفي وراءها فلسفة الإنسانية وفضائها,.
أذكر مرة سيدي أنني كنت في الطريق إليه مضطرباً ومرتبكاً، من كل شيء أمامي وخلفي، من تعاريج المدينة، من استدارة جسورها، من شموخها، من ضرورات البرتوكول والرسميات التي توقعت أن أمر بها، لأنها تزعجني كثيراً,.
ولكن منذ دخولنا منزله المعمور، اكتشفت أن الاضطراب الذي تلبّسني لم يزد عن محض خيال,.
وجدت إنساناً تماما كالميلاد، كهدية من كوكب، وتسمّر نظري أمامه حينها، كنت أقرؤه بهدوء وعلى عجل,.
فأدركت أن لكل زمن الرجل الذي يستحقه، ولكل مدينة الرجل الذي تستحق، والذي يملك وحده القدرة الخارقة على أن يعري العتمة والظلام عن نهارها الجميل، وجدت إنساناً يستقبل ضيوفه بابتسامات عذبة، وقسمات لا تؤمن إلا بالحرية والأصالة، ويد تصافح بحرارة اللقاء الصغير والكبير، حقاً كما قال مالك حداد:
إن الابتسامات فواصل ونقاط انقطاع وقليل من الناس أولئك الذين مازالوا يتقنون وضع الفواصل والنقط في كلامهم
واكتشفت الصفات المشرقة والمدهشة بسعة الاطلاع، والثقافة الراقية والحوار الواعي، والسياسة الحكيمة، ولايخلو مجلسه من طالب حاجة، وصرخة مضطر، وكان مبدعاً في كل نسمة رقيقة تهب من شمائله، وكل هاطل يهمي من مزن جوده، وكل بسمة يزرعها فوق الشفاه المحبطة.
يصلح بين المثقفين إذا تخاصموا,.
يجمع التبرعات للمسلمين المنكوبين في البوسنة والشيشان وكشمير وفلسطين,.
يساعد في إنشاء المراكز الثقافية، ويتبرع لها.
لا تمنعه مسؤولياته من تكريم أبناء هذا الوطن الشامخ أحياء وأمواتاً.
رئيس لكثير من الجمعيات الخيرية وجمعيات تحفيظ القرآن.
إيه، أيتها المعرة: احترقي بي في هذه المربعانية ما شئت أن تحترقي.
فالشيء الوحيد الذي تعلمناه من الصحراء القاسية كأبناء بادية أن الطفل لا بد أن يأكل من ثرى هذه الأرض بمجرد غياب أمه، ليتشكل حبها مع جسمه ودمه وروحه في حين أن أطفال العالم يأكلون الحلوى والشوكلاته.
وتعلمنا في شبابنا القاسي وغربتنا القاسية أننا لا بد أن نقف بصمت الإعجاب والذهول أمام قدرة سلمان,.
وأخيراً,, حقّ على كل إنسان مثقف ومتمدن أن يقول إن لي وطنين:
المملكة العربية السعودية، وصدر سلمان بن عبدالعزيز.
والله من وراء القصد
E-mail:a-thni@ maktoob.com
|
|
|
|
|