| تحقيقات
*
* تحقيق : طلال حميد البلوي
على بعد 150كم من المدينة المنورة وقعت اعظم معركة في التاريخ الاسلامي والتي كانت النقطة الفاصلة في ذلك التاريخ.
وهذا الموقع بين المدينة المنورة وينبع والذي سميبدر وعرفت المعركة باسمه اصبح اليوم مدينة عصرية تخترقها الشوارع والانفاق وتغطي مساحتها المباني الحديثة والمدارس والمرافق الخدمية والصحية والاجتماعية.
وعندما يشرق يوم السابع عشر من رمضان من كل عام تعود للاذهان ذكرى تلك الموقعة الاسلامية الكبرى ويستعيد المسلم ذكرى ذلك الموقع وهذا المكان الذي حوى على أرضه الطاهرة اكبر فتح اسلامي.
وعبر الجزيرة كانت رحلتنا اليوم الى أرض بدر لنقف على حاضرها ونصور ماضيها من خلال قبورها ووديانها وشعابها وجبالها التي ما زالت شاهداً على الموقع.
وقداخترنا لقرائنا أن نحملهم من خلال السرد التاريخي لغزوة بدر مدعماً بالصور الحديثة التي التقطتها كاميرا الجزيرة خلال شهر رمضان المبارك و قبيل ايام من حلول موعد ذكرى المعركة.
ففي مثل هذا اليوم قبل 1419 سنة هجرية وقعت أول معركة فاصلة للإسلام والمسلمين انها غزوة بدر الكبرى وبهذه المناسبة سوف نتحدث عن هذه الغزوة وقبل الحديث عنها لابد ان نتحدث بايجاز عن غزوة العشيرة التي حدثت في جمادى الأولى والآخرة سنة 2ه واصبحت سبباً لغزوة بدر الكبرى، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكره أحداً على الخروج على ثلاثين بعيراً يعتقبونها وذلك لاعتراض عير لقريش ذاهبة إلى الشام، فوجدوا العير قد فاتتهم بأيام ولما قرب رجوعها من الشام الى مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيدالله وسعيد بن زيد الى الشمال، ليقوما باكتشاف خبرها، فوصلا الى الحوراء، ومكثا حتى مر بهما ابو سفيان بالعير، فأسرعا الى المدينة، وأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر.
كانت العير مركبة من ثروات طائلة من أهل مكة، الف بعير موقرة بالأموال، لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي، ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلاً.
انها فرصة ذهبية لعسكر المدينة، وضربة عسكرية وسياسية واقتصادية قاصمة ضد المشركين لو أنهم فقدوا هذه الثروة الطائلة، لذلك اعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين قائلاً: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله يفلكموها.
ولم يعزم على احد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، لما أنه لم يكن يتوقع عند هذا الانتداب انه سيصطدم بجيش مكة بدل العير هذا الاصطدام العنيف في بدر، ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة، وهم يحسبون ان مضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه في السرايا الماضية، ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه في هذه الغزوة.
قوة الجيش الإسلامي
واستعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً 313، او 314،317 رجلاً، 82 أو 83 ، 86 من المهاجرين، و 61 من الأوس و 170 من الخزرج ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالاً بليغاً، ولا اتخذوا اهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرسان، فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرا ليعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا واحدا.
وكان قوام جيش المشركين نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره وكان معه مائة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط وكان قائده العام أبا جهل بن هشام وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش فكانوا ينحرون يوما تسعا ويوما عشرا من الإبل.
جيش مكة يتحرك
وحينئذ خرجوا من ديارهم كما قال الله: بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله واقبلوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بحدهم وحديدهم يحادون الله ويحادون رسوله وغدوا على حرد قادرين وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه لاجتراء هؤلاء على قوافلها.
تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال في اتجاه بدر وسلكوا في طريقهم وادي عسفان ثم قديد ثم الجحفة وهناك تلقوا رسالة جديدة من أبي سفيان يقول لهم فيها: انكم انما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله فارجعوا.
وكان من قصة أبي سفيان انه كان يسير على الطريق الرئيسي ولكنه لم يزل حذرا متيقظا وضاعف حركاته الاستكشافية ولما اقترب من بدر تقدم عيره، حتى لقي مجدي بن عمرو وسأله عن جيش المدينة فقال: ما رأيت أحدا انكره إلا اني قد رأيت راكبين قد اناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا فبادر ابو سفيان إلى مناخهما فأخذ من أبعار بعيرهما ففته فإذا فيه النوى فقال: هذه والله علائق يثرب فرجع إلى عيره سريعا وضرب وجهها محولا اتجاهها نحو الساحل الغربي تاركا الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة وارسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة.
وقوع الانشقاق في جيش المشركين
ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع ولكن قام طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلا: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور، ونطعم الطعام ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا ابدا.
ولكن على رغم أبي جهل أشار الأخنس بن شريق بالرجوع فعصوه فرجع هو وبنو زهرة، وكان حليفا لهم ورئيسا عليهم في هذا النفير فلم يشهد بدرا زهري واحد، وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل، واغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس بن شريق فلم يزل فيهم مطاعا معظما.
وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم ابو جهل وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع.
فسار جيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بني زهرة وهو يقصد بدر فواصل سيره حتى نزل قريبا من بدر، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادي بدر.
نزول المطر
وأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرا واحدا، فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم به، واذهب عنهم رجس الشيطان، ووطئ به الأرض ، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط به على قلوبهم.
المسلمون يتمركزون على ماء بدر
وتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه، ليسبق المشركين الى ماء بدر، ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عشاء ادنى ماء من مياه بدر، وهنا قام الحباب بن المنذر كخبير عسكري، وقال: يارسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ ام هو الرأي والحرب والمكيدة؟: قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يارسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم قريش فننزله ونغور أي نخرب ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي.
فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش، حتى أتى اقرب ماء من العدو، فنزل عليه شطر الليل، ثم صنعوا الحياض، وغوروا ما عداها من القلب.
مقر قيادة المسلمين
وبعد ان تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبني المسلمون مقراً لقيادته، استعداداً للطوارئ وتقديرا للهزيمة قبل النصر، حيث قال: يانبي الله الا تبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن اعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الاخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، بمنعك الله بهم، يناصحونك، ويجاهدون معك.
فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير، وبنى المسلمون عريشاً على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال، ويشرف على ساحة المعركة.
كما تم انتخاب فرقة من شباب الانصار بقيادة سعد بن معاذ، يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم حول مقر قيادته.
تعبئة الجيش وقضاء الليل
ثم عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه، ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، ثم بات رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الى جذع شجرة هنالك، وبات المسلمون ليلهم هادئ الأنفاس منير الآفاق، غمرت الثقة قلوبهم، وأخذوا من الراحة قسطهم، يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحاً إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام .
كانت هذه الليلة ليلة الجمعة، السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكان خروجه في 8 أو 12 من نفس الشهر.
الجيشان يتراءان
ولما طلع المشركون، وتراءى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا.
وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب، فقد كان في يده قدح يعدل به، وكان سواد بن غزية مستنصلاً من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال: استو يا سواد ، فقال سواد: يا رسول الله أوجعتني فأقدني، فكشف عن بطنه، وقال:استقد فاعتنقه سواد وقبل بطنه، فقال:ماحملك على هذا يا سواد ؟ قال: يارسول الله قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير.
ولما تم تعديل الصفوف أصدر اوامره الى جيشه بأن لا يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب فقال:إذا أكثبوكم يعني كثروكم فارموهم، واستبقوا نبلكم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم ، ثم رجع الى العريش هو وأبو بكر خاصة، وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش.
اما المشركون فقد استفتح ابو جهل في ذلك اليوم فقال:اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة، اللهم اينا كان احب اليك وأرضى عندك فانصره اليوم، وفي ذلك أنزل الله: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين
ساعة الصفر
وكان أول وفود المعركة الأسود بن عبدالاسد المخزومي وكان رجلاً شرساً سيئ الخلق خرج قائلا: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فلما خرج إليه حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه ، فلما التقيا ضربه حمزة، فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه، ثم حبا الى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تبر يمينه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى اتت عليه وهو داخل الحوض.
المبارزة
وكان هذا اول قتل اشعل نار المعركة، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار، عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبدالله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: أكفاء كرام، مالنا بكم حاجة وإنما نريد بني عمنا، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:قم يا عبيدة بن الحارث، وقم ياحمزة، وقم ياعلي ، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فأخبروهم، فقالوا: أنتم أكفاء كرام، فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد، فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة، وقد قطعت رجله، فلم يزل صمتاً حتى مات بالصفراء بعد اربعة أو خمسة ايام من وقعة بدر، حينما كان المسلمون في طريقم الى المدينة، وكان علي يقسم بالله أن هذه الآية نزلت فيهم:هذان خصمان اختصموا في ربهم الآية.
الهجوم العام
وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة الى المشركين، فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة، فاستشاطوا غضباً، وكروا على المسلمين كرة رجل واحد.
وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم، واستغاثوه، وأخلصوا له، وتضرعوا إليه، تلقوا هجمات المشركين المتوالية، وهم مرابطون في مواقعهم، واقفون موقف الدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون: أحد أحد.
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول :اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني انشدك عهدك ووعدك ، حتى إذا حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب بشدة، واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها، قال:اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً ، وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال: حسبك يارسول الله، ألححت على ربك.
وأوحى الله إلى ملائكتهأني معكم فثبتوا الذي آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، وأوحى الى رسولهأني ممدكم بألف من الملائكة مردفين أي أنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضا أرسالاً، لا يأتون دفعة واحدة.
نزول الملائكة
وأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال : أبشر يا ابا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع أي الغبار ، وفي رواية محمد بن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله ، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع .
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب العريش، وهو يثب في الدرع، ويقول:سيهزم الجمع ويولون الدبر ، ثم اخذ حفنة من الحصباء ، فاستقبل بها قريشاً وقال:شاهت الوجوه ، ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد الا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، وفي ذلك أنزل الله:وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى .
الهجوم المضاد
وحينئذ أصدر الى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال:شدوا ، وحرضهم على القتال قائلا:والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة وقال وهو يحضهم على القتال:قوموا الى جنة عرضها السموات والأرض ،وحينئذ قال العمير بن الحمام: بخٍ ، بخٍ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ما يحملك على قولك : بخٍ، بخٍ ؟ قال: لا والله يارسول الله إلا رجاء ان اكون من أهلها، قال:فإنك من أهلها ، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل.
وكذلك سأله عوف بن الحارث ابن عفراء فقال: يارسول الله ما يضحك الرب من عبده! قال غمسه يده في العدو حاسراً، فنزع درعا كانت عليه، فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
وحين اصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بالهجوم المضاد كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت، وفتر حماسه، فكان لهذه الخطة الحكيمة اثر كبير في تعزيز موقف المسلمين، فإنهم حينما تلقوا أمر الشد والهجوم وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه قاموا بهجوم كاسح مرير، فجعلوا يقلبون الصفوف، ويقطعون الأعناق، وزادهم نشاطاً وحدة أن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول في جزم وصراحة سيهزم الجمع ويولون الدبر ، فقاتل المسلمون أشد القتال، ونصرتهم الملائكة، ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال: كان يؤمئذ يندر رأس الرجل لايدري من ضربه، وتندر يد الرجل لايدري من ضربها، وقال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر الى المشرك أمامه، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة ، وقال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل ان يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري، وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبدالمطلب أسيراً، فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد اسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق، وما اراه في القوم، فقال الأنصاري:أنا أسرته يارسول الله فقال:اسكت فقد أيدك الله بملك كريم .
إبليس ينسحب من ميدان القتال
ولما رأى إبليس وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي كما ذكرنا، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت فلما رأى ما يفعل الملائكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه، وتشبث به الحارث بن هشام وهو يظنه سراقة فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هارباً ، وقال له المشركون: إلى اين ياسراقة؟ الم تكن قلت: إنك جار لنا، لا تفارقنا؟ فقال: إني ارى ما لا ترون، إني اخاف الله، والله شديد العقاب، ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر.
الهزيمة الساحقة
وبدأت امارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم امام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون حتى تمت عليهم الهزيمة.
الشهداء والقتلى
انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة للمشركين، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة اربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين وثمانية من الانصار.
أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون وأسر سبعون، وعامتهم القادة والزعماء والصناديد.
ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى، فقال:بئس العشيرة كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس ثم أمر بهم، فسحبوا الى قليب من قلب بدر.
المدينة تتلقى أنباء النصر
ولما تم الفتح للمسلمين أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرين الى اهل المدينة، ليعجل لهم البشرى، أرسل عبدالله بن رواحة بشيراً الى أهل العالية، وأرسل زيد بن حارثة الى أهل السافلة.
وكان اليهود والمنافقون قد ارجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة، حتى انهم اشاعوا خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولما رأى احد المنافقين زيد بن حارثة اركباً القصواء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فلاً.
فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتى تأكد لديهم فتح المسلمين فعمت البهجة والسرور، واهتزت ارجاء المدينة تهليلاً وتكبيراً، وتقدم رؤوس المسلمين الذين كانوا بالمدينة الى طريق بدر ليهنئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الفتح المبين.
قال أسامة بن زيد: أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان.
الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة
وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر بعد انتهاء المعركة ثلاثة ايام، وقبل رحيله من مكان المعركة وقع خلاف بين الجيش حول الغنائم، ولما اشتد هذا الخلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يرد الجميع ما بايديهم ، ففعلوا، ثم نزل الوحي يحل هذه المشكلة.
عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً فالتقى الناس، فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون، واكبت طائفة على المغنم يحرزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم الى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، وليس لأحد فيها نصيب وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم أحق بها منا، نحن نحينا منها العدو وهزمناه، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: خفنا ان يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فأنزل الله يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين,وبعد ان أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ثلاثة أيام تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه الأسارى من المشركين، واحتمل معه النقل الذي أصيب من المشركين، وجعل عليه عبدالله بن كعب، فلما خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية، وقسم هنالك الغنائم على المسلمين على السواء بعد ان أخذ منها الخمس.
وعندما وصل الى الصفراء امر بقتل النضر بن الحارث وكان هو حامل لواء المشركين يوم بدر، وكان من أكابر مجرمي قريش، ومن أشد الناس كيداً للاسلام، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه علي بن أبي طالب.
ولما وصل الى عرق الظبية أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، وقد أسلفنا بعض ماكان عليه من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي كان ألقى سلا جزور على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، وهو الذي خنقه بردائه، وكاد يقتله لولا أن يعترض أبو بكر رضي الله عنه، فلما أمر بقتله قال: من للصبية يامحمد؟ قال: النار، قتله عاصم بن ثابت الأنصاري ويقال علي بن أبي طالب.
* المصدر الرحيق المختوم لصفي الرحمن كفوري.
|
|
|
|
|