| مقـالات
كانت أواخر الأربعينيات من القرن الماضي هي الفترة المناسبة لقيام دولة إسرائيل اذ كانت معظم الدول العربية تحت نير الاستعمار والانتداب وغيرها من مسميات نفي الادارة المستقلة, أما الأخرى فكانت تخوض حروب التنمية وتوفير العيش ولم تكن الجيوش العربية أكثر منها قوى أمن داخلي أو فرق تشريفات رسمية.
واليوم، ما أشبه الليلة بالبارحة، الدول مستقلة وكبيرة ولكن الظروف الدولية الراهنة ترجعنا إلى مربع عجزنا في اربعينيات القرن الماضي، حيث نسمع عما يحدث ولكن لا تستطيع الحكومات فعل أي شيء.
وهنا أنا لا أمارس العنتريات الرخيصة بمهاجمة وانتقاد الزعماء والدول، كما أني لا أتملق الحكومات فلا يربطني بها إلا الاحترام من جانب واحد، وأزعم انه لو كان جيفارا بثورته العالمية، رئيساً لإحدى الدول العربية سواء دول الجوار أو الجدار، فلن يتمكن من فعل شيء يحلم به رواد مقاهي الثورة ومنظرو مجالس النضال، وسؤال أم عبدالله الله يمسيها بالخير فمنذ بضعة اشهر أو ربما سنة وعندما كان عماد الدين أديب يحاور ضيفه السياسي الكبير جاءه اتصال من أم عبدالله من المدينة المنورة تسأل بكل صدق وبساطة وبصوت قد فاض به الغيظ،: ليه العرب ما يجتمعوا ويضربوا اسرائيل , لا ألوم أم عبدالله ولكن ألوم المفكر الكبير أو المناضل الأكبر عندما يكون هو أم عبدالله ويظن ان المسألة تكمن في أن ينتظر حسن وعمر وعبدالصمد خروج عوض في الصرفة ليدبغوه علقة تتحدث بها فصول سنة ساتة .
باختصار نحن نعيش عصر القطب الواحد، والقوة الوحيدة الأعظم، والنظام العالمي الجديد، اي، وبكلمة واحدة، يكفي ان تقول امريكا ان ما يحدث في صفرونيا الوسطى يضر بمصالحها الحيوية، أو يهدد النظام العالمي، حتى تنتشر القوات الأمريكية في أنحاء صفرونيا.
ومن سيحتج عطفاً على صفرونيا اليوم، سيطرق باب البيت الأبيض غداً بحثاً عن معونة أو عقد أو حتى ساندويتش دولارات.
هذه هي شروط اللعبة التي فرضها الأخ الأكبر بما له من جبروت وبغطرسة القوة التي يمتلكها، وليس لنا إلا الرضا حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وبالمناسبة الأمريكان يسمون الحكومة الأمريكية العم سام عندما يدلعونها ويسمونها الأخ الأكبر عندما يكون الحديث جاداً.
لا بأس، هذه شروط الأخ الأكبر، فلنلعبها بنفس الشروط، فهناك ضوء ساطع في نهاية النفق:
شهدت نهاية الأربعينيات ايضاً استقلال الهند والذي تم بطريقة فذة قل نظيرها في التاريخ، كانت الهند جوهرة التاج البريطاني، وكانت الامبراطورية لا تغرب عنها الشمس، وكان الأسد البريطاني في عنفوانه، صحيح انه اثخن بالجراح في الحرب العالمية الثانية ولكنه بحاجة لأكثر من عقدين من الزمن ليعترف بانه فقد معظم أسنانه واضراسه ويكتفي بمقعد كبير في مجلس المتقاعدين العظماء .
لم يقد غاندي حرب عصابات في غابات الهند، ولم يقم بأي من أشكال العنف المشروع تجاه المستعمر المستبد، فقد طالب بالاستقلال، وأكد أنه يعنيه، ومضى في طريقه واثق الخطوة يمشي حافياً ويقود عنزته 32 عاماً حتى ظفر وطنه بالاستقلال.
بعد سنتين من حصوله على الاجازة الجامعية في القانون في جامعة لندن انتقل غاندي إلى جنوب افريقيا، واشتغل بالمحاماة، وذات يوم قذف به عدد من البيض من حافلة إلى قارعة الطريق لأنه آسيوي قذر ودفعه ذلك لأن يكرس وقته وجهده لمكافحة العنصرية، وأثناء الحرب العالمية الأولى ذهب إلى لندن لتنظيم وحدة إسعاف هندية اسهاماً في المجهود الحربي البريطاني! وفي عام 1915 عاد إلى الهند ليتزعم حركة المطالبة بالاستقلال، وكانت حركة عادية مثل كل الحركات الموجودة في باقي المستعمرات: عرائض، وخطب، واسترحام واستجداء، ومفاوضات، بيد أن وقوع مذبحة امرتسار عام 1919 حيث فتح الجيش البريطاني النار على متظاهرين مسالمين فقتل 379 شخصاً وجرح 1200 آخرين علمه أن الاستعمار لا يعرف رد الجميل، ولن يثمن موقفه الشخصي في حربي البوير والعالمية الأولى، أو مجهود الجنود الهنود الذين حاربوا في صفوفه، كما تعلم وأن الاستجداء وبوس اللحى لا يجدي، فانطلق في طريقته الفذة المقاومة السلبية .
وكانت أمضى أسلحته المقاطعة الأجنبية، فأحرق الهنود سلعهم وملابسهم المستوردة في الشوارع علناً، واتجهوا للمصنوعات المحلية، كانت بريطانيا تستحوذ على محصول القطن الهندي باسعار زهيدة فتصنعه وتعيده للبيع في الهند بأسعار عالية جانبية أرباحاً وفيرة، وحمل غاندي المغزل لينسج له رداء، وابتاع عنزاً جاعلاً حليبها غذاءه الأساسي، أما ما عدا ذلك فهو من باب زيادة الخير خيرين, وكانت بريطانيا تحتكر تصنيع الملح في شبه جزيرة عملاقة تحيط بها البحار، فاتجه غاندي إلى البحر للحصول على الملح، وهكذا فعل صحبه محمد علي جناح ونهرو، والمثقفون مثل طاغور وإقبال وكل قطاعات الشعب، وركعت بريطانيا أمام المقاومة السلبية وتخلت عن الهند عام 1947.
ظروفنا غير ظروف الهند في الأربعينات، والعالم حالياً غيره ذلك الوقت، ولكن سلاح غاندي مازال فعالاً وموجوداً بين أيدينا اسرائيل تحظى بأكبر معونة مالية أمريكية رسمية ناهيكم عن المعونات غير الرسمية، أسواقنا العربية مليئة بالسلع الأمريكية ولكنها في نفس الوقت مليئة بمثيلاتها من كل صنف ولون، ومن كل حدب وصوب، فلنستعمل سلاح غاندي، ولنقاطع البضائع والخدمات الأمريكية قدر الامكان وأينما نستطيع، كل قدر طاقته، وبحسب ظروفه ورؤيته، ليس في الأمر تشنج أو تصلب، وانما نية حسنة وعمل صادق، وسيكون من الغباء ان يحرق المرء ملابسه الأمريكية الصنع، أو يلقي بسيارته الأمريكية في النفود، ولكن ليمتنع قدر استطاعته عن شراء أي جديد أمريكي الصنع أو الهوية.
تخيلوا لو امتنع مليون مدخن في السعودية عن تدخين السجائر الأمريكية، ماذا سيحدث لشركات التبغ الأمريكية بل يستطيع المرء أن يصطاد عصفورين بحجر فيعمل خيراً لنفسه ولأمته ولو امتنع عن التدخين نهائياً.
عندنامن أمريكا سيارات، وأدوات مكتبية، وأثاث، وأغذية، وفنادق، ومطاعم، فلنقاطعها ولنتجه إلى بدائلها الأخرى، ولنتحل بالصبر، فلن تقاطع البضائع الأمريكية اليوم عزيزي القارئ ثم تقوم اسرائيل بوقف عدوانها غداً أو اليوم الذي يليه، واحمد ربك فلن تضطر بضغط من روحك الوطنية أو ضميرك الديني إلى أن تحيك رداءك لتتشح به، أو تقتني عنزاً لتشرب حليبها ولبنها وتصنع منه جبنة وزبدة، ولن تذهب إلى البحر لجلب الملح، كلما عليك عندما تدخل محلاً تجارياً أو بقالة أو سوبر ماركت أن تبحث عن جهة الصنع، فإذا وجدتها أمريكية خذ التي بجانبها، وادع ربك الا يستمر عناؤك 32 سنة.
فاكس 4782781 fahads@suhuf.net.sa
|
|
|
|
|