| مقـالات
تناولت الحلقة الاولى من قراءة هذا الكتاب مقدمته والفصل الأول منه المشتمل على حديث عن أوضاع الجزيرة العربية، وبخاصة وسطها وشرقها وشمالها، قبيل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب, وتناولت الحلقة الثانية من القراءة شيئاً من الفصل الثاني للكتاب؛ وهو الفصل الذي تكلم عن هذا الشيخ ومذهبه، وتكمل هذه الحلقة قراءة ذلك الفصل.
واصل المؤلف فاسيلييف حديثه عن دعوة الشيخ محمد؛ مفسراً لمضمونها الاجتماعي لكن من الواضح أن التوفيق جانبه في تفسيره لهذا المضمون؛ وذلك راجع، فيما يبدو، إلى اقتناعه بمنحى فكري يساري كان سائداً في بلده, ومما قاله عن مضمون الدعوة الاجتماعي (ص91):
تتضمن مؤلفات الوهابية أحكاما لا لبس فيها، وهي تجسد مصالح الوجهاء وموجهة ضد الفقراء, فالجمهور البسيط يجب أن يخضع لأصحاب السلطة,, واعتبرت الوهابية دفع الزكاة واجباً وليس مطلباً طوعياً, وبذلك جعلت الضرائب المركزية المفروضة لاستغلال السكان، بمن فيهم البدو، مبدأ دينياً لا مناص منه .
ومن الغريب أن يقع مؤلف؛ مثل فاسيلييف، رجع إلى مصادر كثيرة في خطأ كهذا الخطأ الذي ذكره, فمن المعروف أن دفع الزكاة أو إيتاءها ركن من أركان الإسلام الخمسة وليست مجرد تطوع، لكن تشبع المؤلف بفكر معين كما ذُكِر جعله يواصل حديثه المتصف بالخطأ الواضح قائلا:
قدمت الوهابية نظاما دقيقاً جداً للتمويه على القهر والتفاوت الطبقيين, وهو نظام مقتبس من تقاليد الإسلام التي مر عليها آنذاك أكثر من ألف عام, فقد طالبت الأمراء والوجهاء بمعاملة الرعية بالعدل؛ أي بتنظيم القهر الطبقي .
ثم يختتم فاسيلييف كلامه عن المضمون الاجتماعي لدعوة الشيخ محمد بالمنهج الذي بدأه به قائلاً (ص92):
ومما لا جدال فيه أن الوهابية كانت بقدر ما تتميز بالسمات الملازمة للحركات الشعبية التعادلية الموجهة ضد الظلم الطبقي المفرط إلا أن الظلم المنظم يبقى ظلماً، والاستغلال المعتدل يبقى استغلالا, ولم يكن بوسع أية تغييرات سطحية في آلية العلاقات الطبقية التي دعت إليها الوهابية أن تغير من جوهر هذه العلاقات مع أن الفلاحين الذين يتعرضون للاستغلال قبل غيرهم لم يواجهوا ذلك باللامبالاة.
فالفلاحون يلتزمون دوماً جانب دعاة تخفيف، أو تنظيم، الاستغلال,ولذلك حظي الوهابيون، لدرجة كبيرة، بتعاطف فلاحي نجد في أواسط القرن الثامن عشر عندما اشتد الظلم الطبقي والاستغلال .
ولما فرغ الكاتب فاسيلييف من حديثه عن المضمون الاجتماعي لدعوة الشيخ محمد انتقل إلى الكلام عن موقفه من الآخرين, وقد اعتمد في كثير مما قاله في هذا المجال على مصادر معادية للدعوة؛ مثل دحلان وابن سند، أو جاهلة بحقيقتها؛ مثل بيلايف، فوقع في اتهامها بأمور هي منها براء, فقد نقل عن المعادين لها قولهم: إن الوهابيين زادوا ركنا سادساً على أركان الإسلام الخمسة؛ وهو متابعتهم، وإنهم يكفّرون جميع من على وجه الأرض من المسلمين الذين لم يعتنقوا معتقدهم, ونقل عن بيلايف قوله: إن الوهابيين لا يعتبرون خصومهم مسلمين؛ بل مشركين, وكانوا يعتقدون ان جميع الذين سمعوا دعوتهم ولم يتبعوها كفرة,, وإن موقفهم من أهل الكتاب أخف من موقفهم من المسلمين غير الوهابيين, فقد سمحوا لليهود والنصارى بالصلاة في المنازل، وفرضوا جزية طفيفة على كل واحد منهم .
وكل من قرأ مؤلفات الشيخ محمد وأنصاره، أو قرأ دراسات علمية عن هذا الموضوع، يتضح له عدم صحة ما قيل، في الكلام السابق، عن الدعوة التي نادى بها ذلك الشيخ الجليل.
وقبل أن ينتقل فاسيلييف إلى الحديث عن الاتجاهات التوحيدية السياسية لدعوة الشيخ محمد قال (ص93):
اتهم فقهاء كثيرون الوهابيين بعدم احترام الرسول (صلى الله عليه وسلم) وينكر المؤلفون الوهابيون المحدثون جميعاً هذا الاتهام بغضب شديد, ولعل الرغبة في التقليل من مكانة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بوصفه خليل الله قد أدت عملياً إلى التقليل من دوره في الإسلام وتجلت في عدم الاحترام المذكور .
وهل هناك افتراء أشد مما ذكره فاسيلييف؛ نقلا عن خصوم الشيخ محمد وأنصاره، من اتهامهم بما اتهموا به في موقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم ؟
وعندما تناول فاسيلييف الاتجاهات التوحيدية لدعوة الشيخ محمد قال(ص94):
لم تكن الوهابية مجرد راية لحروب الغزو والفتح، بل كانت تبريراً فكرياً للاتجاهات التوحيدية في الجزيرة العربية, فإن معارضة عبادة الأولياء وتحطيم أضرحة الصالحين وقطع الأشجار المقدسة,, كل ذلك كان يعني، في ظروف الجزيرة، تحطيم السند الفكري والروحي للتجزئة الإقطاعية العشائرية, فإن وجهاء واحة ما عندما ظلوا بدون ولي خاص بهم فقدوا حقهم بالتفوق والأصالة كما فقدوا عائدات زيارة ضريح هذا الولي .
ومع أن الكلام السابق قد يبدو مقبولا في تحليله العام إلا أن الواقع التاريخي لوسط الجزيرة العربية لا يؤيده, فمن المعلوم أن الإقطاع يتم من حكومة مركزية لشخص ما، ومنطقة نجد، التي كانت منطلق دعوة الشيخ محمد لم تكن فيها حكومة مركزية، بل كانت كل بلدة من بلدانها مستقلة بذاتها, ولم تكن سلطة أي أمير من أمراء هذه البلدان قائمة على أساس ديني متمثل بسدانته لضريح ولي من الأولياء.
بل إن المصادر الموثوقة لم تذكر إلا قبة واحدة في نجد كلها، وهي القبة المقامة على قبر في الجبيلة يعتقد أنه قبر زيد بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي استشهد في معركة مع مسيلمة الكذاب, ومن الجدير بالذكر أن النزعة الاستقلالية المناهضة للوحدة كانت هي المسيطرة على نفوس أمراء نجد حينذاك, وكانت هذه السيطرة من أكبر الأسباب في وقوف كثير منهم ضد الانضمام إلى الدولة السعودية الأولى بحيث لم تتمكن هذه الدولة من توحيد نجد كلها إلا بعد أكثر من أربعين سنة من الكفاح المستمر.
ثم قال فاسيلييف (ص94):
كانت الوهابية تنطوي بالدرجة الأولى على أفكار توحيد نجد ووجهائها في الصراع ضد خصومهم التقليديين أشراف الحجاز, فقد منعت الوهابية زيارة العتبات المقدسة في مكة والمدينة (ما عدا الكعبة) ومنها قبر الرسول، الأمر الذي كان سيحرم الحجازيين من قسم كبير من عائداتهم .
أما أن دعوة الشيخ محمد كان من أهدافها توحيد نجد فهذا صحيح, وقد اتضح ذلك قولاً وفعلاً, فعندما قابل الشيخ عثمان بن معمر، أمير العيينة، الذي كان قد قبل دعوته، قال له:
إني أرجو إن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله وتملك نجداً وأعرابها ؛ أي تحكم حاضرة نجد وباديتها, وهذا يدل على أن الشيخ كان يدرك أن ميدان تحرك دعوته منطقة نجد المفككة سياسياً حينذاك، البعيدة عن متناول السلطة العثمانية غير المهتمة بها، كما يدل على أن من الأهداف التي كان يهدف إليها توحيد نجد, أما من حيث الفعل فمن المعلوم تاريخياً أن أنصار الدعوة، بقيادة آل سعود، ناضلوا حتى تم لهم آخر الأمر توحيد نجد, على أنه لا ينبغي أن يفهم من كلام فاسيلييف انه كان هناك صراع بين أشراف الحجاز ونجد كلها؛ ممثلة في وجهائها أو أمرائها، قبل دعوة الشيخ؛ بل قبل توحيد أنصاره لها, كانت هناك غزوات من الأشراف لعدد من بلدانها في ازمنة مختلفة، لكن أمراء نجد لم يكونوا في كتلة واحدة ضد أولئك الأشراف, ولا ينبغي، أيضا، أن يُفهم من كلام فاسيلييف المتعلق بزيارة الأماكن المقدسة في الحجاز على ظاهره, فالثابت تاريخياً أن أشراف مكة هم الذين منعوا أنصار دعوة الشيخ محمد من أداء الحج أكثر من خمسين عاما على أساس أن قاضي الشرع في مكة قد أصدر فتوى بتكفير الشيخ وأتباعه عام 1162ه تقريباً, ومن المعلوم أن الشيخ محمدا وأنصاره يوجبون ما أوجبه الشرع من أعمال متصلة بالحج والعمرة؛ أي القيام بكل ما يُقام به في المشاعر المقدسة, وقد سبقت الإشارة، في هذه القراءة، إلى أنهم يحرّمون السفر لزيارة قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، لكنهم يرون زيارته من المدينة نفسها فضيلة من الفضائل.
ولعل مما وفق إليه الكاتب فاسيلييف قوله (ص 95):
يتضح من أحكام وممارسات الوهابية اتجاهها المحدد تماماً والمناهض للصوفية، وعلى وجه الدقة شجبها الصوفية بالشكل الذي انتشرت به في الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر .
ذلك أن الشيخ العلامة عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب قد ذكر في رسالة من رسائله:
ولا ننكر الطريقة الصوفية التي هي تنزيه الباطن من رذائل المعاصي المتعلقة بالقلب والجوارح مهما استقام صاحبها على القانون الشرعي والمنهج القويم المرعي إلا أننا لا نتكلف له تأويلا في كلامه ولا أفعاله .
على أن مما لم يوفق فيه المؤلف هو قوله:
عندما عارض الوهابيون البدع من حيث المبدأ، وساروا بأحكام الحنبلية إلى حدها الأقصى، رفضوا في الواقع المذهب السني الرسمي للامبراطورية العثمانية؛ أي الحنفية .
ذلك أن الحنبلية والحنفية مذهبان فقهيان من مذاهب أهل السنة والجماعة الأربعة المشهورة, ومعارضة الشيخ محمد وأنصاره للبدع ومظاهر الشرك لم تكن من منطلق اتباعهم للمذهب الحنبلي, فهذه أمور تتصل بالتوحيد والعقيدة، وليست من أمور الفقه, ولقد كان للشيخ وأنصاره معارضون من الحنابلة، كما كان لهم مؤيدون من الأحناف, فالمذهب الفقهي شيء وما يتصل بالتوحيد والشرك والبدع شيء آخر.
ولقد أنهى فاسيلييف الفصل الثاني من كتابه؛ وهو الفصل الذي خصصه للحديث عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ودعوته، بالكلام عن انتقاله إلى الدرعية؛ واصفاً المرحلة السابقة لهذا الانتقال بقوله (ص 99):
بهذا تنتهي المرحلة الأولى من تاريخ الوهابية؛ وهي إن صح القول مرحلة التطور الجنيني والتجريب والاخفاقات والصياغة السياسية, ومنذ الانتقال إلى الدرعية ارتبطت حياة محمد بن عبدالوهاب ارتباطاً لا ينفصم بمصير إمارة الدرعية والدولة السعودية .
|
|
|
|
|