| محليــات
لا أدري لماذا كثر الحديث في الأيام الأخيرة عن (اللغة العربية) وأنواع الأكل ؟,,, ولم أكن ليفوتني متابعة الأول، لاهتمامي الشديد باللغة التي ولدتُ أتهجَّى حروفها، وسأموت أكابد النطق بجملها,,,، تحيطني وأحيطها بشيء غير قليل من الود الذي جعلها وسائل تعبيري ومراكب دلالاتي، وأجنحة خيالاتي,,,، في الوقت الذي لا أذكر أنني مرَّ بي يومٌ واحدٌ وخطر لي التفكير فيه عن (وجبة) غذاء أنوِّع أطباقها، وأشكِّل تركيبتها ولعابي يسيل لأيِّ نوعٍ منها، أو لأيِّ تكوينٍ فيها,,.
وبقدر ما أحرص على القراءة لغةً، أفقد أيَّ حرصٍ في الأكل,,, حتى أنني شكاني طبيبي لنفسي، فما أنصفه طبعي، ولا أجابه طبقي,,.
اللغة العربية عندي غذاء,,.
والطعام عندي دواء,,.
و,, أنهل مما يقولون عنها,,, هذه اللغة الأم حتى إذا ما وقف بي القوم، وجدتهم بمثل ما أجدني نبكي عليها,,, لا منها، ونحدب عليها لا لها,,, ونأسى أن داخَلها لَحنٌ، وشحَّ قاموسُ بنيها منها، وعجزت مراكبُهُم عن السير في دروبها,,,، ونازعوها فتنازعتها الأمراض بينهم,,, وكأني بها على ألسنتهم، وبين ألسنتهم، غريبةً قد شدَّت الرحال، حزينةً تكفكف الدموع، سجينةَ حزنِها وغربتها,,.
أما الطعام,,, فقد احتفى به القوم، فتارةً يذهبون في تَفَقُّد مصادره، وأخرى في أشكاله وألوانه، وأُخَرَ في أنواع محتواه,,, كيف يتفنَّنون في تشكيل الموائد، وتحريك الشهوة، وتنويع الأطباق,,,، لا يُثنَونَ جهداً في تعلُّم طرائق إعداده، ولا في أساليب إغوائه، ولا في وسائل تنويعه,,,، لا يسمعون عن طبخةٍ ، إلا سعوا لمعرفة تركيبتها، وأسلوب تنفيذها، شكت منهم المجالس لا يتحدثون إلا عن (الأكل)، بمثل ما شكت منهم المطابخ في (زحمتها)، و(تخمتها)، بمثل ما شكت منهم (الموائد) في (تعجيزها) لهم بماذا يأكلون منها وماذا يدعون، وبطونهم تقودهم إلى المصحَّات، وتودي بهم إلى النهايات,,, وهم يبنونها من جهة، ويهدِّمونها من الجهات الأربع التي تتقاطر عنها الوجبات الشهيّة بالأكلات (البليّة).
فيما هم يهملون ألسنتهم، ولا يبنون ذائقتهم، ولا يهذِّبون ملَكاتهم، من معين اللغة، فمطبخها خواء، وطاولاتها شحيحة، ومصادرها مُغفَلَةٌ مُقفَلَّةَ، وجهاتها الأربع نوافذها موصدة,,.
ألسنتهم فقيرة هزيلة,,.
وبطونهم غنيّة سمينة,,.
فماذا عن عقولهم؟,,, وماذا عن شعورهم؟,,.
وما وجدت الحديث عنها ولا عنه ذا نتيجة,,, فالدولاب يلفُّ، والناس تعيش، والصحف تدور، والأيام تتوالى,,, والخاصّة يُلحِنون في لغتهم، بمثل ما يفعل العامّة، والخاصّة يتباهون بالموائد العامرة، بمثل ما يفعل العامّة,, وما وجدت أكثر زحمةً، ولا أضيع وقتاً من مواقع بيع الخضار والفاكهة واللحوم والبقول والعصائر والدهون، حتى إنني ما حملت همّاً بمثل ما أحمله حين تلحُّ الحاجة لأن أذهب لابتياع ما يقيم أوَدي,,,، والناس خير من يشهد على هذا، فلم تعد هناك ساعة ذروة، ولا يوم شراء، فالساعات كلُّها والأيام كلُّها تكتظ الشوارع وتزدحم المحال، ويتناكب الناس للشراء,,.
بينما لم أرَ تناكباً، ولا عرفت مكاناً، لمعالجة ضعف اللسان، وتقويم اللغة عند الانسان إلا ما كان من أمر الدرس النظامي في يومٍ دراسي ضمن منهج تعليمي تنتهي به الدورة الزمنيّة بقليل من الحصاد لا يشبع ولا يقوِّم ولا يؤدي إلى (تعَوُّد) حسن لمرافقة اللغة في مصاحبة الحديث اليومي,,, الشفاهي والكتابي.
وإني لأرثى للبطون,, بمثل ما أرسي للألسنة!
وإني لأشفق على الإنسان شفقة الفاحص لخواءٍ يعمُّه,,, فلا هو صحيح ولا هو سليم,,,, و,,, إني لأفزع لكل الفازعين للغتهم,,, يرونها تضمحل حزناً وضعفاً,,, بينما يُلقِم الإنسان نفسه بما يؤذيه,,.
ألا فإننا من القوم الذين لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نُشبِعُ,,.
فما بالنا نُتخِمُ؟!
ومن القوم الذين عليهم أن يقرأوا ويتعلّموا، و,,, ليأمنوا مكر أنفسهم قبل مكر غيرهم بهم,,, فما بالنا لا نتعلم؟,,.
ألا,,, فتحية للفازعين,,,
|
|
|